https://iclfi.org/pubs/icl-ar/2025-palestine-100
أدناه ُترجَمة لمقال نُشِر في سبارْتَسِيْستْ (الطبعة الإنجليزيَّة) العدد 69 بتاريخ أغسطس 2024. يتستند المقال على عرض قدمته ليتال سينغر في اجتماع اللجنة التنفيذية العالمية للرابطة الشيوعية الدولية فى مارس 2024 .
لقد تحولت غزة ألى أنقاض والقصف الإسرائيلي والهَجمات البريَّة الإسرائيليَّة قتلتْ عددًا لا يُحصى من الفلسطينيين وحوَّلتْ هذا السِّجن المفتوح إلى جحيمٍ لا يُطاق. وفي الضِّفة الغربيَّة، يَطرُدُ الجُنود الإسرائيليُّون وعِصابات زبانِية الصَّهاينة الفلسطينيِّين مِن منازلِهم ويُجرِّفونَها مِن أجْلِ بناء مُستوطَنات يهودِيَّة جديدة. ومِن جِهتِها، لمْ تُفلِح المظاهرات الحاشِدة التي تَضاعفتْ، في جميع أنحاء العالم، بعد الهُجوم الذي شنَّته حماس في 7 أكتوبر 2023، في وقْفِ هذه الإبادة الجَماعِيَّة، وحرَكة المُسانَدة هذه في طريقها إلى الخُمود. في حين اِكتَفَتْ الدُّول العربِيَّة، بِإيماءاتِ التَّضامُن الرَّمزِيَّة مع الفلسطينيين المُحاصَرين. أمَّا مُفاوضات وقفِ إطلاق النَّار التي تجْري بِدعمٍ مِن الولايات المتحدة وقرارات الأمَم المُتَّحدة وتحقيقات المحكمة الجنائيَّة الدُوليَّة فَليْستْ سوى خِدعة دبلوماسيَّة، فيما يُواصِل الأمريكيُّون والقوى الإمبِرياليَّة الأخرى تسليحَ ودعْمَ الدَّولة الصُّهيونِيَّة. وفي الوقت نفسه، تقترِب إسرائيل مِن هدَف الصَّهاينة المُتمَثل في اِحتلال فلسطين بِأكملِها، مِن النَهر إلى البَحر.
وحتَّى في الوقت الذي تتطور فيه هذه الكارثة، يَدّعي مُعظمُ مُناضِلي اليَسار، مُردِّدين صَدى الوطنيِّين الفلسطينيِّين، بِحماقة، أنَّ النِّضال يتقدَّم جيِّدا وأنَّه على طريق النَّصر. وفي هذا الصَّدد، كثيرًا ما نسمَع هُتافَ "فلسطين سَتَحرَّر قريباً". صحيحٌ أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة تُحظى بِشعبية كبيرة، وأنَّ إسرائيلَ فقدَتْ عدَّة مِئات مِن جنودِها وسُمعتَها الدُّوليَّة تضرَّرتْ ولكنَّ ما يُواجِهُهُ الفلسطينيُّون هو الإبادَة وليْس التَّحرير. وللاِضْطلاع بالنِّضال الفلسطيني، علينا أنْ نبدأَ بِقول الحقيقة حول الوَضع الحالي؛ إذْ أنَّ مُعظَم الجماعات المارْكْسْيَّة، على المُستوى الدُّولي، بعيدةٌ، كُلَّ البُعد، عن القيام بذلك: فهِي تُهلِّل للحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة بينما هي تسيرُ في طريقِ الهزيمة. وبدلًا مِن النِّضال مِن أجل تغْيير مَسارِها، فإنَّها تتعلَّق بِمُؤخرة قِيادة هذه الحرَكة، سواءٌ كانت ليبرالِيَّة أو وطنيَّة. ونتيجةً لِذلك، نُلاحظ بأنَّ مَن يَزعَمون أنَّهم ماركْسِيِّين، وهُم موجودين في كُلِّ مكان في هذا الصراع، بدونِ تأثيرٍ لهُم على نتائجه، عملِياًّ.
وهذه ليستْ مشكلةٌ جديدة، بلْ الأمرُ عكسَ ذلك: إنَّه مُجرَّدُ مثالٍ آخَر على عجْز الحركة الماركْسِيَّة، عنْ تطوير اِستراتيجِيَّة ثورية للنِّضال التَّحرُّري الفلسطيني، وهذا على مَدى المائة عام الماضية؛ فمنذُ تَعرُّجات الحزب الشُّيوعي في فلسطين، في السَّنوات الأولى، إلى تَملُّق مُنظمة التَّحرير الفلسطينيَّة بِزعامة "ياسِر عَرفاتْ" في السَّبعينيات، مُرورًا بِدعم "سْتالينْ" للنَّكبَة عام 1948، تُجَرْجِرُ الحرَكة الماركْسِيَّة عبءَ تاريخٍ كارثيٍّ على القضيَّة الفلسطينيَّة؛ إذْ لم تنجَح، أبدًا، في ترسيخِ نفسِها كقُطب مُعارِض جِدِّيٍ للصُّهيونيَّة والقوميَّة والإمبِرياليَّة. واليوم، مِن المُلِّح أكثرَ مِن أي وقتٍ مضى، أنْ نَتعلَّم مِن دروسِ هذه الإخفاقات ونَرسِمَ مسارًا لِهزيمة الدَّولة الصُّهيونيَّة وتمهيدِ الطريق أمام تحرير الفلسطينيِّين واِنعتاقِهم الاِجتماعي.
هذا هو هدفُ هذه الوثيقة. وعلى أساسِ تحليلٍ مادِّيٍ للقضيَّة الفلسطينيَّة سنَشرَحُ سببَ الإِخفاقات السَّابقة ونُبَيِّن الطريق الحقيقي للنَّصر.
طبيعة القضيَّة الفلسطينيَّة
لِفهْم القضيَّة الفلسطينيَّة، علينا أنْ ننظُرَ إلى جُذورِها وتطوُّرِها؛ فخِلال الحرب العالميَّة الأولى، اِفْتَكَّ البريطانيون فلسطين مِن الإمبراطوريَّة العُثمانيَّة المُتهالِكة. في ذلك الوقت، لم يكُنْ السُّكان اليَهود سِوى أقلِيَّة صغيرة، وكان مُعظمُهم يعيشون في المنطقة، منذ فترة طويلة. ولكنْ مِن خِلال "تَصريحِ بَلْفورْ"، في عام 1917، قدَّم البريطانيون دعمَهُم للمشروع الاِستِعماري الصُّهيوني المُتمثِّل في اقِتِطاعِ "وطنٍ قوميٍّ" يَهودي من صُلْبِ هذا البَلد العربي. كان هذا الوعدُ مُناوَرةً مُخجِلة تهدِف إلى إثارَة الصِّراع القومي في المنطقة مِن أجْل تعزيزِ الهيْمنة البريطانيَّة. وعلى إثْرِهِ، هاجَر مستوطِنون يهود أوروبيُّون إلى فلسطين، واِشتروا أراضٍ مِن كِبار المُلاَّك العَرب وطرَدوا الكثيرَ من الفلاَّحين منها. ونَظراً لِأنَّ الصُّهيونِيَّة كانت بِحاجةٍ إلى الدَّعم المُباشِر مِن الإمبِرياليَّة - البريطانِيَّة أولاً ثُمَّ الأمريكيَّة - مِن أجلِ البَقاء، فقد تمَّتْ إقامةُ الاِستِيطان اليَهودي كحِصْنٍ للرَّد الإمبريالي على باقي الشَّرق الأوسَط.
مُنذ البداية، كانت الصهيونية جَواباً قوميًا رِجعيًا على الاِضطهاد اليهودي، قائمًا على تَجْريدِ الشَّعب الفلسطيني وطردِه مِن وطنه. لقد وصَلَ الصَّهاينة إلى فلسطين بِشِعارات "الفتْح بِالعَمل " و"فتح الأرض"، مُدرِكين، تمامًا، أنَّه حتَّى يتحقَّق الفتحُ بالعمل وبالأرض مِن الضَّروري طردُ السُّكان العَرب. ولمْ يتوقَّف الصَّهايِنَة اليَمينيُّون، المعروفون بـ"التَّحْريفِيِّين"، عن السَّعي لِتحقيق هذا الهدف. ولَطالما كانتْ الصُّهيونيَّة اللِّيبِرالِيَّة، التي كانت تصِفُ نفسَها بـِ "الاِشتراكيَّة" أو "العُمَّالِيَّة"، حرَكةً مُنافِقة: إذْ أنَّها كانتْ تَسعى إلى التَّوفيق بين المَبادئ النَّبيلة لـ "الاِشتراكيَّة "والديمقراطيَّة اللِّيبِراليَّة وبيْن مَنطِق الإبادة الجَماعيَّة ضِمنَ المَشروع الصُّهيوني.
وبِطبيعة الحال، أثارَ التَّوسُّع الصُّهيوني، في النِّصف الأول مِن القرن العشرين، ردّود فِعل مُتزايِدة مِن جانب السُّكان العَرب؛ وكثُرَتْ الثورات العنيفة ضدَّه. وفي هذه النِّضالات بَلْوَرَ الفلسطينيون وعيًا وطنيًا مُختلفًا عن وعي السُّكان العَرب في بَقيَّة المنطقة. في أوَّل الأمْر، جاء قادَةُ النِّضال الفلسطيني مِن النُّخَب العربيَّة التَّقليديَّة التي كانت مَصالِحها مُهدَّدة، بشكلٍ مباشرٍ، مِن طرَف الصَّهايِنة. ولكنَّ هذه النُّخب كانتْ مُرتبِطة، أيضًا، بالبْريطانِيِّين الذين ضَمَنوا لها مكانةً مُتميِّزة عنْ الجماهير العربيَّة. وبدءاً مِن النُّخَب التقليديَّة في السنوات الأولى وإلى الوطنيِّين المُعاصِرين، كانتْ قيادةُ الحرَكة الفلسطينيَّة تُمثِّل، دوْماً، مَصالِحَ الطبَقة العُليا التي كانت مُضطَرَّة لِمُواجَهة المشروع الصُّهيوني، ولكنَّها غيرُ قادِرة على هزيمة الإمبِرياليَّة والصُّهيونيَّة نظرًا لِموقِعِها الطَّبَقي.
إنَّ الاِستغلالَ الوَحشي للفلسطينيِّين ومُقاومتَهم البُطوليَّة تَضَعهُم في طليعة النِّضال ضدَّ الإِمبِرياليَّة في الشَّرق الأوسَط. لكنَّ الجماهير العربيَّة والتُّركيَّة والإيرانِيَّة مُنقسِمة على نفسِها ومُنقسِمة بينَ دُوَل مُتناحِرة تحكُمها زُمَرٌ مِن المُلوك ورجال الدِّين والدِّيكتاتوريِّين الذين يَضعونَ مَصالِحَهم الرِّجْعيَّة قبلَ النِّضال ضدَّ الإِمبِرياليَّة والصُّهيونِيَّة. وتكمُنُ المُشكلة التاريخيَّة في حرَكة التَّحرُّر الفلسطينية في سَعيِها إلى دعْمِ هذه الطبقات ذاتِ الاِمتيازات بَدَلاً مِن تَوحيد جميعِ سُكَّان الشَّرق الأوسَط الكادِحين في نِضالٍ ضدَّ حُكَّامِهم وأسْيادِهم الإِمبِرياليِّين. وهذه المُشكِلة مُتأصِّلة في النَّزعة القومِيَّة: فهي لا تَرى الصِّراعات إلاَّ مِن مَنظور العَداوات القوميَّة. وبالتَّالي، لا يُمكِنُ لِلوَطنيِّين الفلسطينيِّين أنْ يَتصَوَّروا الصِّراع إلاَّ مِن مَنظور النِّضال ضدَّ الأُمَّة الإِسرائيلية بِأكملها - وهي معركةٌ لا يَقْدِرونَ على كَسبَها - مُعتَمِدين على الأنظمة العربيَّة - التي لا يُمكِنُهم التَّعْويلُ عليها – وعلى المُناوَرة بيْن مُختلف القِوى العُظمى التي تَستفيدُ، مُباشرةً، مِن اِضْطِهاد الفلسطينِّيين.
إن عُقدة القضيَّة الفلسطينيَّة هي أنَّ هناك أمَّتَيْن تُطالبان بالأرض نفسِها وليس لدى أيٍ مِنهما مكانٌ آخرٌ للذَّهاب إليْه. ولا يُمكن مُعالجة الظُّلم التاريخي الذي لَحِق بالفلسطينيِّين مِن خلال إنشاء دولة فلسطينيَّة عادِمة التَّمثيل تُقام على شريحة مِن أرض فلسطين التاريخيَّة وتحتَ التَّهديد الدَّائم لدولة صهيونيَّة أقوى منها بِكثير. كما لنْ يتحقق ذلك من خِلال مُواجَهة الأمَّة الإسرائيليَّة بأكملِها، والتي ستُقاتِل، حتمًا، حتى الموت مِن أجل وجودِها الوَطني. بل على العكسِ من ذلك، يجبُ تحطيمُ الدَّولة الصهيونيَّة مِن الدَّاخل مِن خلال قَطع الصِّلة التي تربِط الجماهير العامِلة بالمشروع الصهيوني. ولِتحقيق ذلك، يجبُ أنْ نَتوَجَّه إلى المَصالِح الطَّبقِيَّة للعُمَّال في إسرائيل، الذين تَستغِلُّهم البُرجوازيَّة الصُّهيونيَّة، والذين تزدادُ ظروفُهم المَعيشيَّة سوءًا بِسبب اِضطهاد الفلسطينيِّين والدَّوْر الذي يُجبَرونَ على لَعِبِه كَبَيادِق للإِمبِرياليَّة في المنطقة. إنَّ تَحرُّر الطبقة العامِلة الإسرائيليَّة يتطلَّب التَّحرُّر الوطني لِفلسطين. وكما كتَبَ "فْريديريكْ إنْجَلْزْ"، فإنَّ الأمَّة التي تَضطَهِدُ أمَّةً أخرى لا يُمكِن أنْ تَكونَ أمَّةً حُرَّة.
إنَّ في قلبِ القضيَّة الفلسطينيَّة تَكمُن مُشكلة وطنيَّة، ولكنْ لا يُمكن حلُّ هذه المشكلة في إطارٍ وطنيٍّ بَحْت؛ ذلك أنَّ أدنى خُطوة نحو تحريرِ فلسطين ستَصْطَدِم بِالنِّظام الرَّأسمالي بِرُمَّتِه في الشرق الأوسط. لهذا السَّبب، يتًّضِح أنَّ النِّضال التَّحرُّري الفلسطيني يحتاجُ إلى قيادةٍ ثوريَّة تستطيعُ أنْ تُدمِج القضية الوطنيَّة في التَّحرُّر الاِجتماعي للطَّبقة العامِلة في جميع أنحاء المنطقة. وبِعبارةٍ أخرى، فإن الأمرَ يحتاجُ إلى تَطبيق البرنامَج التْروتْسْكي للثَّورة الدَّائمة. وفي هذا المَقَام، سنَسْعى إلى تقْييمِ الحرَكة المارْكْسِيَّة بِشأنِ القضيَّة الفلسطينيَّة على أساسِ هذه المُقارَبة.
المَسألة اليهوديَّة: الشُّيوعيَّة في مُواجَهة الصُّهيونِيَّة
تستند الحرَكة الماركْسِيَّة على أُسُس مَتينة في المَسألتيْن القوميَّة واليهوديَّة؛ فخِلال الحرب العالميَّة الثانية. قدم التْروتْسْكي البَلْجيكي أبْراهام لِيُونْ تحليلاً ماركْسِيًا لاِضطِهاد اليَهود، شرح فية كيف أن اليهود فى ظل الأقطاع كانوا بودون وظيفة أقتصادية محددة كمقرضين للمال. هذه الوظيفة أصبَحتَ غيرُ ضروريَّة في ظِلِّ الرَّأسماليَّة. إذ فتحتّْ الثَّوراتُ البُرجوازيَّة، في أوروبا الغربيَّة، أبوابَ الغِيتُوهات وبَدَا أنَّ اِستيعابَ اليَهود أصبَح أمرًا واقِعًا.
لكِنْ في أوروبا الشَّرقيَّة، عندما أدَّى اِنهيارُ المُجتمع الإقْطاعي إلى حِرمان اليَهود مِن الأسَاس المادِّي لِوُجودِهم، لم يكُن هناكَ تصنيعٌ واسِع النِّطاق مِن شأنِه أنْ يُمكّن هؤلاء المَلايين مِن الوُسطاء، الذين أصبحوا بلا فائدة، مِن الاِندِماج في البْروليتارِيا. وقد كان اليَهود، وبِشكلٍ خاص في "منطقة الإقامة"، وهي المِنطقة الغربيَّة مِن الإمبراطوريَّة الرُّوسية، يَعيشُون في بُؤْسِ الـ "شْتِيتَلْ" (القُرى اليَهوديَّة) وكانوا ضحايا مَذابِح مُتكرِّرَة. وتحوَّلتْ نِسبةٌ صغيرة مِن السُّكان اليَهود إلى رأسماليِّين أو بْروليتارِيِّين؛ وهاجَرَتْ نِسبةٌ أكبَر مِنْهُم، مِمَّا أدَّى إلى كَسْر الاِتجاه نحوَ الاِندِماج في البُلدان الغربيَّة. وبَقيتْ غالبيَّة ُاليَهود مِن صِغار التُّجار في حالةٍ بائِسة "وهُمْ مُختَنَقينَ بيْن نِظاميْن: الإقْطاع والرَّأسمالِيَّة، وكُلٌّ مِنهُما يزيدُ مِن تَعفُّن الآخَر“، كما كتَب "أبْراهامْ لِيُونْ".
لقد حرَّرَتْ الثَّورة البُلْشُفِيَّة لِعام 1917 يهودَ الإمبراطوريَّة الرُّوسِيَّة، ممَّا دفَع الكثيرَ مِنهُم إلى الاِنْضِواء تحتَ راية الشُّيوعيَّة والنأْيِ بِأنفُسِهِم عن الصُّهيونيَّة. ولقد تَصَوَّروا أنَّ مُستقبلَهُم يَكمُن في تَدمير النِّظام الاِقتصادي القديم، الذي لمْ يكُن لهُم مكانٌ فيه، وفي بناءِ مُجتمع اِشتراكي جديد. وكان مِن الطبيعي أنْ تتعارَض الشُّيوعيَّة والصُّهيونيَّة، ممَّا جعَلَ الأمَميَّة الشُّيوعيَّة تُكافِح، في السنوات الأولى، ضدَّ تأثيرِ الصُّهيونيَّة. وكما أوضَحَتْ" وثيقة "الأُطْروحات والإضافات حول المَسائل القومِيَّة والاِستعمارِيَّة"، الصَّادِرة، في عام 1920، عن المؤتمر الثاني للأُمَمِيَّة الشُّيوعيَّة:
" وكمِثالٍ صارِخ على الخِداع الذي يُمارَس ضدَّ الطبقة العامِلة في البلدان الخاضِعة بِواسطة المَساعي المُشترَكة للإمبريالية الحليفة وبُرجوازِيَّة هذه الأمَّة أوْ تِلك، يُمكننا أنْ نَستشهِدَ بِقضية الصَّهايِنة في فلسطين، حيثُ سلَّمتْ الصُّهيونيَّة السُّكانَ العرب الساخِطين إلى اِستغلال إنكلترا بِحُجَّة إنشاءِ دولةٍ يهوديَّة في هذا البَلد الذي لا يُشكِّلُ اليهود فيه عدداً مُهِماً".
— البيانات والأطروحات والقرارات الصادرة عن المؤتمر الثانى للأممية الشيوعية 1920، نشر فى جون ريدل "يا عمال العالم والطهدين، أتحدوا."
عقِبَ طلَبِ مجموعة "بُوالْ زِيُونْ" (عُمَّال صُهيُونْ) العُضويَّة في "الكومِنْتِرْنْ"، كَتبتْ اللَّجنة التَّنفيذيَّة للأًمميَّة الشُّيوعيَّة في رسالة مُؤرَّخة في آب/أغُسطُس 1921، أنَّ "حرَكَتَكُم تنْطوي على مُيولٍ لا تتَّفِق مع مَبادئ الأُمَميَّة الشُّيوعيَّة". وعارضَتْ الرسالة الفِكرة القائِلة بأنَّ الاِستيطانَ اليهودي في فلسطين يُمكِن أنْ يكونَ تَحرُّرِيًا وأصَرَّتْ على "الرَّفض المُطلق لهذه الفكرة: وهذا هو الشَّرط الأوَّلي الذي نَجِد أنفًسَنا مُضطَرين لِفَرضِهِ عليكُم" (نشرة اللَّجنة التَّنفيذيَّة للأُمَميَّة الشُّيوعيَّة العدد 2، 20 أيلول/سبتمبر 1921). وبالإِضافة إلى ذلك، طالبَتْ الرِّسالة بأنَّ تُعارِضَ مُنظَّمة "بُوالي زِيُونْ" هِجرةَ اليهود إلى فلسطين وأنْ تتَّخِذَ اِسمَ "الحزب الشُّيوعي في فلسطين "مِن أجلِ إظهارِ تصميمِها على تَمثيل ليسَ فقط العُمال اليهود بل أيضًا الجماهير العربيَّة العامِلة. وعندما رفضتْ غالبِيَّةُ أعضاءِ "بُوالي زِيُونْ" قبولَ هذه الشُّروط، أوضَّحتْ الأُمَميَّة الشُّيوعيَّة أنَّها كانتْ "مُستَعِدَّة لِمنْحِ البْروليتارْيا الإسرائيليَّة تنازُلاتٍ واسِعة فيما يتعلَّق بِالتَّنظيم والدِّعاية، من أجْل تسهيل مَسيرتِها نحو الشُّيوعِيَّة“. وأضاف البيان: "وبعد رفضِ شُروط القَبول المُقترَحة، فإنَّ العلاقات الوحيدة التي يُمكن أنْ تقوم بين الشُّيوعيِّين و"بُوالي زِيُونْ" هي العلاقات الأكثرُ شَراسَة". “بُوالي زِيُونْ "والأممية الشيوعية ـ اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية: إلى عُمَّال جميع البُلدان والبروليتاريا اليهودية" (1 أغسطس1922)
الحزب الشُّيوعي في فلسطين: بين الصُّهيونيَّة والقوميَّة العربيَّة
عندما تمَّ قبول عُضوية الحزب الشُّيوعي في فلسطين في عام 1924، كان السْتالينِيُّون قد اِستَولوا على السُّلطة السياسيَّة في الاِتحاد السوفييتي، وبَدأتْ الأُممِيَّة الشُّيوعيَّة في الاِنحِطاط؛ فبعدَ أنْ كانت أداةً للثَّورة العالميَّة، تحوَّلتْ إلى تابِعٍ للسِّياسة الخارجيَّة السْتالينِيَّة القائمة على المَنظور الرِّجعي لِبناء الاِشتِراكية في بلدٍ واحدٍ، يَتعايَشُ مع الإِمبِرياليَّة. ونتيجةً لذلك، لم يكُنْ دافِع تدخُّلات الأمَميَّة الشُّيوعيَّة في الحزب الشُّيوعي في فلسطين هو ما كان يجِب القيام به لِبناء حزبٍ ثوري.
وفي وقتِ تأسيسِه، كان الحزب الشُّيوعي في فلسطين مُعارِضًا رسميًا للصهيونية، ولكنَّ هذه القطيعة كانت جزئيًة فقط؛ فقد اِنبثَق الحزبُ الشُّيوعي في فلسطين مِن الجناح اليَساري في مَجموعة "بُوالي زِيُونْ"، واِستمَرَ مُناضِلوه في التَّماهي مع الصُّهيونيَّة اليَسارِيَّة. وكان يتألَّف، أساسًا، مِن المُستَوطِنين اليهود الذين وَصلوا إلى فلسطين دونَ أن يعرِفوا أيَّ شيءٍ عن فلسطين ولمْ يكونوا على دِراية بالسُّكان الذين يعيشون فيها. وسُرعان ما تغيَّر مُناضِلوه بِسُرعة؛ فالعديدُ منهم، وبعد أنْ اِستَمالتْهُم الشيوعيَّة إليها، غادَروا، بِبساطة، فلسطين، هربًا من "الجَحيم الصُّهيوني".
لقد سَعى الحزب الشُّيوعي في فلسطين إلى تعزيز الوَحدة بين العرب واليهود، ولكن دون أنْ يُعارِض الصُّهيونيَّة بشكلٍ مُباشِر؛ فَعلى سبيل المِثال، دعا المنشور الذي أصدرَهُ سَلَف الحزب الشُّيوعي في فلسطين، بِمناسبة عيدِ العُمَّال في أيار/مايو 1921، العُمَّال العَرب إلى الاِنضمام إلى المُظاهرة الشُّيوعيَّة، وأعلَنَ أنَّ العُمَّال اليهود جاؤوا إلى فلسطين كحُلفاء في النِّضال المُشترَك ضدَّ الرَّأسماليِّين العرب واليهود. وبالطبع، ففي سياقٍ كان الصَّهايِنة يَطردُون فيه الفلاَّحين العرب مِن أراضيهم والعمالَ العرب مِن وَظائِفهم، لم يلقَ ذلك آذانًا صاغِية. وكانتْ، مُقارَبة الحزب الشُّيوعي في فلسطين تعني، ضِمنِيًّا، بِأنْ تتخلَّى الجماهيرُ العربيَّة عن تطلُّعاتِها الوطنيَّة المشروعة كَشَرطٍ مُسبَق لِلوحدة؛ وكان يجبُ تنحِيَة النِّضال ضدَّ الصُّهيونيَّة جانِبًا لصالح "الاِتِّحاد" ضدَّ أرْبابِ العَمل.
كان هذا المَوقِف هو النَّقيضُّ التَّام للمُفهوم اللِّينينيَّ للمسألة الوطنيَّة. فكما أوضحَ "لِينينْ" في كتابه "الثَّورة الاِشتراكيَّة وحقُّ الأمَم في تقرير المَصير" (يناير-فبراير 1916):
"لا يُمكِن لبْروليتارْيا الأُمم المُضطَهِدة أنْ تَكتَفي بِعباراتٍ عامَّة ونَمطِيَّة يُكرِّرها كل البُرجوازِيِّين المُسالِمين ضد عمليات الضَّم ومن أجل الحقوق المُتساوية للأمم بِشكلٍ عام [...]. يجِب عليها أنْ تُطالِب بِحريَّة الاِنفِصال السِّياسي للمُستعمَرات والأمم المُضطَهَدة مِن قِبَل” أمَّتِها“. وإلاَّ فإنَّ أمَميَّة البْروليتارْيا تبقى بِلا مَعنى ولَفظيَّة؛ فلا ثِقة ولا تضامُن طبَقي بين عمال الأمَّة المُضطَهَدة والأمَّة التي تَضطَهِد".
وحتَّى وإنْ لمْ يكُن السُّؤال المَطروح في فلسطين هو الاِنفِصال السِّياسي، تبقى حُجَّة "لِينينْ" صالِحة تمامًا. إنَّ مسؤولية الشيوعيِّين اليهود في فلسطين كانت ولا تزال، وأولاً وقبْل كل شيء، مُعارَضَة الاِضطِهاد الوطني للفلسطينيِّين. وعلى هذا الأساس فقط يُمكِننا البدء في الحديث عن الوحدة الطبقيَّة.
هذا، بِالضَّبط، هو الدَّرسُ الذي يرفُضه العديدُ مِن الشُّيوعيين المَزعومين عندما يُطلِقون دَعوات للوحدة معروفة في هذا الصَّدد، لكنَّها لا تتَّخِذ مِن تحرير المُضطهَدين نقطة اِنطلاق لها. ومُنظمة " لُوتْ أُفْرِيِّييرْ" (كفاح عُماَّلي)، على سبيل المِثال، معروفة في هذا المجال. فهي تَفتخِر بالسَّير في شوارع باريسْ خلفَ لافِتات مِثل "ضد الإمبريالية ومُناوراتِها، ضد نَتنْياهو وحَماس، يا بروليتاريا فرنسا وفلسطين وإسرائيل... لِنتَّحِدْ! ". ومرَّة أخرى، نكرر أنَّ الوحدة لنْ تَتَحقَّق إلاَّ مِن خلال التَّحرُّر الوطني الفلسطيني – وهو أمْرٌ ترفُضُه" لُوتْ أُفْرِيِّييرْ". ومثلما كان مُتوقَّعاً، فإنَّ " لُوتْ أُفْرِيِّييرْ" تُجمِّل، أيضًا، تاريخَ الحزب الشُّيوعي في فلسطين في سنواتِه الأولى.
منذ مُنتصف العِشرينيَّات وحتى مُنتصف ثلاثينيَّات القرن الماضي، تدخَّلتْ الأُممِية الشُّيوعيَّة لِإجْبارِ الحزب الشُّيوعي في فلسطين على التَّوجُّهِ نحو الأغلبيَّة العربيَّة. وكان ذلكَ ضروريًا، بالفِعل، لكنَّ السْتالينِيِّين نفَّذوا هذه السِّياسة بأساليب بِيرُوقراطِيَّة وفي خِدمة أهدافٍ اِصلاحية. وفي نهاية المَطاف، طالبتْ الأُمَمية الشُّيوعية مِن مناضلي الحزب الشُّيوعي في فلسطين الاِنضمامَ إلى الحزبِ مِن جديد، والتَّعهُّد بِدَعْمِ تَعريبِه، واِستبدَلتْ غالبيَّة قيادتِه اليهوديَّة بِعَرَب. أمَّا على المستوى السِّياسي، فقد رافقَتْ هذا المنعطف مَواقِفٌ مُتذبْذِبة بيْن التَّنديد القاطِع والعَقيم بالقيادة الوطنيَّة العربيَّة، التي وُصِفتْ بأنَّها "مُجرَّد أداةٍ للرِّجعيَّة"، وبين موقفٍ تَصالُحيٍّ تَام اِتجاه هذه القيادة نفسِها (نقلاً عن جُويلْ بيْنَنْ في " الحزب الشُّيوعي في فلسطين 1919-1948"، تقارير مِيريبْ، آذار 1977).
لقد تَزامنتْ هذه التَّغييرات في الحزب مع صُعود "هِتلرْ" إلى السُّلطة في ألمانيا، مِمَّا أدَّى إلى تدفُّق المُهاجِرين اليهود الألمان في فلسطين. وبين عامي 1933 و1936، وصلَ أكثرُ من 130.000 يهودي إليها، واِزدادَ عددُ الـ "يِيشُوفْ"، (مُجمَل المستوطِنين اليهود قبل إنشاء اِسرائيل) بِنحو 80%. وقد تَرتَّبتْ عن ذلك زيادةُ التَّوتُرات بين اليهود والعرب إلى مُستوىً غير مَسبوق، ممَّا أدَّى إلى الثورة العربية الكبرى بين 1936-1939. وهي اِنتفاضة تميَّزت بالمُظاهرات وثورات الفلاَّحين والإضراب العام والتَّمرُّد المُسلَّح.
وقد دعَّم الشيوعيُّون الفلسطينيُّون قيادة َهذه الثَّورة، ووَضَعوا، في البداية، كلَّ نفوذِهم في خدمة مُفْتي القُدس، "أمين الحُسيْني"، الذي كان يتصدَّر المَشهد. وقد أشاد به الحزبُ الشُّيوعي في فلسطين باِعتبارِه شخصيةً " تنتمي إلى الجناح الأكثر مُعاداةً للإمبرياليَّة في الحركة الوطنيَّة" (نقلاً عن "غسَّان كنَفاني في كتاب " ثورة 1936-1939 في فلسطين“، لجنة فلسطين الديمقراطيَّة، 1972). وأقلُّ ما يُمكن قولُه هو أنَّ الحزب الشُّيوعي في فلسطين زَخْرَفَ الواقعَ؛ لقد كان "الحُسيْني"، وهو ربُّ عائلة مِن مُلاَّك الأراضي الأغنياء، تمَّ تعيينُه، عام 1921، مِن طرَف المندوب السَّامي البريطاني، الذي رأى فيه حلقةً أساسيَّة في الحِفاظ على الاِستقرار في فلسطين. وكان "الحُسيْني" مُواليًا للإمبراطوريَّة البريطانيَّة، لكنَّه رأى في المشروع الصُّهيوني تَهديدًا للنُّخبة العربيَّة التي كان يُمثِّلها، الأمرُ الذي دفعَه، في البداية، إلى تولِّي زِمام المُبادرة في الثورة. ولكنْ مع تطوُّر الحركة، بَدأ العُمَّال والفلاَّحون المُتمرِّدون يُهدِّدون مَصالح كبار مُلاَّك الأراضي، وهي الطبقة التي ينتمي إليها. ونتيجةً لِذلك، أبْرمَ المُفتي، في عام 1936، اِتفاقًا مع البريطانيين لِوضعِ حدٍ للإضراب العام وساعدَهُم في قمْعِ المَرحلة الأولى مِن الثورة العربيَّة.
كان الحزب الشُّيوعي في فلسطين مُحِقّاً، تمامًا، في دعمِ هذه الثورة وحتى في القِتال إلى جانب المُفتي. ولكنْ كان عليه أنْ يفعل هذا بِشكلٍ نَقْديٍّ، بحيثُ يُوَعِّي الجماهير، في كلِّ مرحلة، بِأمْر إعاقةِ المُفْتي للنِّضال، بما في ذلك مِن خلال مُعاداتِه للسَّامية، الأمرُ الذي حالَ دونَ كسْبِ العُمَّال اليهود إلى جانب القضيَّة. وبدَلًا مِن ذلك، قدَّم الحزب الشُّيوعي في فلسطين دعمَه لهذا الزعيم الدِّيني، الذي لم يكتفِ بِقيادة الحرَكة إلى الهزيمة، بلْ أشْرَف، أيضًا، على ذبْحِ الشيوعيين. ويُبيّن "بيْنَن"، في كتابِه " الحزب الشُّيوعي في فلسطين 1919-1948"، أنَّ تَصفية الحزب الشُّيوعي في فلسطين في الحركة الوطنيَّة وصلتْ إلى حدِّ الطَّلب مِن مُناضِليه اليهود المُشاركة في أعمالٍ إرهابيَّة ضدَّ الطَّائفة اليهوديَّة.
وليس مِن المُستغرَب ألاَّ تُحْظى سياساتُ الحزبِ الشُّيوعي في فلسطين بِشعبيَّة كبيرة لدى قاعِدتِه اليهوديَّة؛ إذْ أنَّ هذه السياسة مَزَّقتْ الحزب. واِنعكاسًا للاِنقسامات القوميَّة المُتزايدة داخل الحزب، أنشأتْ اللجنة المركزيَّة للحزب الشُّيوعي في فلسطين هيكلًا جديدًا أُطلِقَ عليه اِسمُ الفرع اليهودي. واِنتقَدَ هذا الفرعُ دعمَ الحزب المُفرِط للثورة العربيَّة وتبنّى الفرعُ الصُّهيونيَّة، بِشكلٍ مُتزايد. ودعا إلى تشكيلِ جبهةٍ شعبيَّة مع الجماعات والأحزاب الصُّهيونيَّة، مُستشهِدًا بِوُجود "دوائر تقدُّميَّة داخل الصُّهيونيَّة". وأخيرًا، طالبتْ اللجنة المركزيَّة، التي كان يَقُوُدها عربٌ، بِحلِّ الفرع اليهودي. وهو ما رفضَه هذا الأخير، مِمَّا أدىَّ إلى الاِنقسام.
عزَّز قمعُ ثورة 1936-1939 الأساسَ العسكري والاِقتصادي للدَّولة الصُّهيونيَّة المُنفصِلة. واِستَخدمَتْ الإمبرياليَّة البريطانية الـ "هاغاناه"، وهي ميليشْيا صُهيونيَّة قِوامُها أكثر من 10.000 فَردٍ، لِقمع الاِنتِفاضة. وقد قُتِل أو جُرِح أو سُجِن أو نُفِي خلالَها ما يُقارِب مِن 10% مِن الرِّجال العَرب الفلسطينيِّين، بما في ذلك المُفتْي وكامِل القيادة الوطنيَّة الفلسطينيَّة، تقريبًا. وفي الوقت نفسه، تمَّ بناءُ شَبكة مِن الطُّرُق لِربط المُستوطنات الصُّهيونيَّة الرئيسيَّة فيما بينها؛ وقد شكَّلتْ هذه الشبكة بعدئذٍ، جزءاً أساسياً من البنية التَّحتية للاِقتصاد الصُّهيوني. وجرى تزْفيتُ الطريق الرئيسية بين "حيْفا" و" تل أبيب"، وتوسيعُ ميناء حيفا وكَسْحُه، وبناءُ ميناءٍ في تل أبيب وهو ما يَعني الحُكمَ على ميناء يافا العربي بِالموت. والأكثر من ذلك، اِحتكر الصَّهاينة عقودَ تموينِ القوَّات البريطانيَّة التي بدأتْ تتدفَّق على فلسطين في بِداية الحرب العالمية الثانيَّة.
لقد أدَّى هذا الصِّراع الجديد إلى تَسريع المَسار الكارثي الذي اِتَّبعهُ الحزبُ الشُّيوعي في فلسطين: وعلى وجه الخُصوص، وبناءً على أوامِر "سْتالينْ"، فقدْ أوْعَزَ الحزبُ إلى الفلسطينيِّين واليهود بِالقتال إلى جانب البريطانيِّين في الحرب "الدِّيمقراطيَّة" ضدَّ ألمانيا الفاشيَّة. وفي جَدَل كتبهُ ضدَّ المجموعة الصغيرة مِن التْروتْسْكِيِّين في فلسطين، قبل الحرب مُباشَرة، أصَرَّ" ليونْ تْروتْسْكي" على أهميَّة مُعارَضة كِلا المُعسكريْن الإمبريالييْن:
"هل يجبُ أنْ نتخلَّى عن الاِنهزاميَّة الثَّوريَّة في البُلدان غير الفاشيَّة؟ هذا هو جوهرُ السُّؤال، وعلى هذا الأساس تقُوم الأمميَّة الثَّوريَّة أو تَسقُط؛ فعلى سبيل المِثال، هل يجِب أنْ يتخلَّى 360 مليون هِندي عن أي مُحاوَلة لِتَوظيفِ الحرب مِن أجل تحرُّرهِم؟ إنَّ تَمرُّدَهم، في خِضَمِّ الحرب، سيُساهِم، بلا شكٍ، في هزيمة بريطانيا. والأكثرُ مِن ذلك أنَّه في حالةِ حُدوث تمرُّد في الهند [...] هل على العُمَّال البريطانيِّين دَعمَه؟ أم أنَّهُم، على العَكس من ذلك، سيكونون مُلزَمين بِتهدِئة الهُنود وهَدْهَدَتِهِم قصْدَ تنْويمِهِم وكلُّ ذلك في سبيل صِراع الإمبرياليَّة البريطانيَّة "ضدَّ الفاشيَّة"؟ فما هو، إذنْ، الطريقُ الذي يجِب أنْ نسلُكَه؟"
— خطوة نحو الوطنيَّة الاجتماعيَّة"، مارس 1939
وهُنا تطرَّق "تْروتْسْكي"، تحديداً، إلى المُشكلة التي قسَّمتْ الحزب الشُّيوعي في فلسطين؛ ففي الواقع، لم يكُنْ دعمُ الإمبرياليَّة البريطانيَّة يُحظى بشعبيَّة بين مُناضِليه العرب. وعلى الرغم مِن أنَّهم لم يُعارِضوا، بالضَّرورة، الدَّعمَ السْتاليني للإمبرياليَّة البريطانيَّة في الحرب، إلاَّ أنَّهم لم يستطيعوا اِستيعابَ حقيقةِ أنَّ الحزب الشُّيوعي في فلسطين كان يُجنِّد العربَ في الجيش البريطاني المَكروه. وفي غُضون سنواتٍ قليلة، أدَّى هذا الاِختلاف والاِنقسامات الوطنيَّة المُتفاقِمة إلى اِنفصال المُناضِلين العرب عن الحزب الشُّيوعي في فلسطين وتأسيسِ مُنظمة يساريَّة جديدة هي عُصبَة التَّحرُّر الوطني. واِنحصرَ الحزب الشُّيوعي في فلسطين، مرَّةً أخرى، في مُناضِليه اليهود. وقد مهَّد هذا الاِستسلامُ الجديدُ الطريقَ لِما سيُصبِحُ، فيما بعدُ، أهَمَّ خِيانةٍ للحزبِ الشُّيوعي في فلسطين وهِي دَعمُهُ لإِسرائيل أثناء النَّكبَة.
دعمُ النَّكبة: خِيانةُ سْتالينْ الكُبرى
في نهاية الحرب العالميَّة الثانيَّة، كانتْ الإمبراطوريَّة البريطانيَّة تنْهار تحت وطْأةِ المجهود الحربي وصعوبات الحِفاظ على اِمْبراطورِيتِها الاِستعماريَّة. وقد أدَّى ذلك إلى اِنسحاب بريطانيا مِن فلسطين، مع نقلِ السُّلطة على الإقليم إلى الأُمَم المُتحدة. وفي عام 1947، اِعتمدتْ الجمعيَّة العامَّة للأُمَم المُتَّحدة خُطَّة التَّقسيم التي قسَّمتْ فلسطين إلى دولة عربية ودولة إسرائيلية. وقد مُنِحَتْ هذه الأخيرة جزءًا كبيرًا من الأراضي، بما في ذلك العديدِ من المناطق التي تقطنُها أغلبيَّة سُكانيَّة عربيَّة.
لم يكُن هذا كافياً في نظَر الصَّهايِنة؛ فَما أنْ صوَّتتْ الأُمَم المُتحدة على تقسيمِ فلسطين، حتى شنُّوا هُجومًا أسفَر عن تشريدِ أكثرِ من 700.000 فلسطيني واِحتِلال 78% مِن أراضي فلسطين التاريخيَّة. وتمَّ إفراغُ بَلْداتٍ بأكملِها مِن سُكانها الفلسطينيِّين، ومُصادَرة بَساتينِهم ومنشآتهم الصناعيَّة ووسائل النقل والمصانع والمنازل وغيرها من المُمتلكات. ويُطلق الفلسطينيون على هذا التَّطهير العِرقي الهائل، الذي أدَّى إلى نُشوء إسرائيل، اِسم النَّكْبَة.
لقد هزَّ اِنْطلاقُ الهُجوم الصُّهيوني العالمَ العربي بِأسرِه. وفي كتابِه "حربُ المائة عام على فلسطين" (منشورات هنري هولت آند كومباني، 2020)، يَشرحُ "رشيد الخالِدي" كيف جَرتْ هذه المأساة:
"في المرحلة الأولى مِن النَّكْبَة قبل 15 أيار/ مايو 1948، أدَّى التَّطهير العِرقي المَنهجي إلى الطَّرْد والنُّزوح الجَماعي لِما مَجموعُه حوالي 300.000 فلسطيني، بالإضافة إلى تدميرِ العديدِ من المراكز الحضَريَّة التي كانت أساسيَّة لدى الأغلبيَّة العربيَّة مِن الناحيَّة الاِقتصاديَّة والسياسيَّة والإداريَّة والثقافيَّة. وبدأتْ المرحلة الثانيَّة بعد 15 أيار/مايو، عندما هزَمَ الجيشُ الإسرائيليُّ الجديد الجيوشَ العربيَّة التي دخلتْ الحرب. وبِقرارِها المُتأخِّر بِالتَّدخل العسكري، كانت الحكومات العربية تتصرَّف بِضغطٍ شديد مِن الرأي العام العربي المُنزعِج، بِشدَّة، مِن السُّقوط المُتتالي للمُدن والقرى الفلسطينيَّة ووُصول مَوجاتٍ مِن اللاَّجئين المُشرَّدين إلى عواصِم البُلدان المُجاورة".
وكما يُوضِّح "الخالدي"، تدخلَّتْ جامِعة الدُّول العربيَّة (وهي تحالُفٌ يضُمُّ، بشكل رئيسي، مِصر وشرق الأردُن والعراق وسوريا) ضدَّ إسرائيل. وقد لعِبَ ملكُ شرق الأردُن، "عبد الله الأوَّل"، دورًا مِحوريًا في هذا الصِّراع؛ فبعدَ أنْ تآَمَر، في البداية، مع البريطانيِّين والصَّهايِنة لِمنْع تشكيل دولةٍ فلسطينيَّة وضَمِّ جُزءٍ مِن فلسطين، دُفِع، فيما بعد، إلى المُواجَهة مع إسرائيل. وكانتْ قوتُّه أهمَّ قوَّةٍ عسكرية في التَّحالُف. وقد ساهَم دورُه الغادِر، بِقدْر كبير، في هزيمةِ التَّحالُف التي حَسمَتْ مصيرَ الفلسطينيِّين.
لكنَّ الملكَ "عبد الله" لم يدّعِ، إطلاقاً، بأنَّه ثوريٌّ مارْكْسِيٌّ. أمَّا "جوزيفْ سْتالينْ" فقد خانَ القضيَّة الفلسطينيَّة باِسم الشُّيوعيَّة والاِتحاد السُّوفَييتي. كان "ستالينْ"، إلى جانِب الرَّئيس الأمريكي "هاري تْرومانْ"، في الضَّغط على الأُمَم المُتَّحدة لِكيْ تَتبنَّى لائِحةُ التَّقسيم. وكان الاِتِّحادُ السُّوفْييتي أوَّلَ دولةٍ تعترِف رسميًا بِدولة إسرائيل. وباِلنِسبة إلى "أبا إيبانْ"، وزير خارجيَّة إسرائيل فيما بعد، فقد كان الاِعترافُ السُّوفْييتي يُمثِّل " فُرصة لا تُصدَّق؛ ففي لحظةٍ، تغيَّرتْ كلُّ خُططِنا للنِّقاش في الأُمَم المُتحدة، تَغيُّراً تاماً". وبِغضِّ النَّظر عن الخِيانة الدِّبلوماسِيَّة، فقد أرسَلتْ الكُتلة السُّوفْييتيَّة الأسلحة إلى الـ "هاغاناه"، عبْر تشيكوسْلوفاكْيا، في الفترة من 1948 إلى 1949، وبذلك زوَّدَتْ الميليشْيات الصُّهيونيَّة، التي دمَّرتْ المُدن والقرى الفلسطينية، بالمُعِدّات الأساسيَّة.
لقد كان دعمُ الاِتحاد السُّوفْييتي للنَّكْبَة خيانةً ذاتَ أبعادٍ تاريخيَّة، وبالخُصوص لأنَّه كان يُنظَر للاِتحاد السُّوفْييتي في العالَم أجمَع على أنَّه قائدُ الطَّبقة العامِلة والثَّورة ضدَّ الاِستعمار. وبِطبيعة الحال، فإنَّ مُختَلف الأحزاب الشُّيوعيَّة والمُنظمات السْتالينِيَّة، التي تُشارِك، اليومَ، في المُظاهرات مِن أجل فلسطين، تتَستَّر على هذا الإِرثِ المُؤسِف أو تنْكِرُهُ؛ فَعلى سبيل المِثال، يرفُض الحزبُ الشُّيوعي في اليونان الاِعترافَ بهذه الجريمة. إذْ كتَب يقول:" إنَّ مذابِح النَّازيِّين في حقِّ اليهود ومُعاداة السَّاميَّة التي روَّجتْ لها، قبل الحرب العالمية الثانيَّة، الطبقاتُ البُورجوازِيَّة في الكثير من البُلدان الرأسمالية أدَّتْ إلى قبولِ الاِتِّحاد السُّوفْييتي والحركة العُمَّاليَّة العالَمِيَّة بِإنشاءِ دولةِ إسرائيل إلى جانب دولةٍ فلسطينيَّة" (أجوِبة قصيرة حول مسائل إيديولوجيَّة ـ سياسيَّة راهِنة بِخصوص الهُجوم على إسرائيل والمَذبَحة ضد الشَّعب الفلسطيني في قطاع غزَّة"، في " أنْتِر ك.ك. أو، غر، 20 نوفمبر 2023).
التْروتْسْكِيُّون والنَّكبَة: الصُّهيونيَّة والوسطية
بِالإضافة إلى الحزب الشُّيوعي، كانتْ هناكَ، أيضاً، نواةٌ تْروتْسكِيَّة صغيرة في فلسطين. وقد اِنتظَم مُناضلوها القادِمون، أساسًا، مِن الصُّهيونيَّة، والتي لم ينْفصِلوا عنها، تمامًا، في نِهاية الثَّلاثينيَّات في الرَّابطة الشُّيوعيَّة الثَّوريَّة (أل. ك. أر"). وكان "طُوني كْليفْ"، أحدُ قادة هذه الرَّابطة، يَنحدِر مِن عائلة صهيونيَّة معروفة في فلسطين التي كانت واقِعة تحت الاِنتِداب البريطاني، وقد اِنخرط في شبابِه في مُنظمة صهيونيَّة عُمَّاليَّة. وفي خمسينيَّات القرن الماضي، كان "كْليفْ" يعيشُ في بريطانيا. وعندما أصبَح أحدُ زُعماء مَجموعة " سُوسْياليسْتْ ريفْيو"، وهي سَلَف الـ " سوسْياليسْتْ وُورْكَرْزْ بارْتي"(حزبُ العُمَّال الاشتراكي)، كان يُسانِد، بِحماسٍ، القوميَّة العربيَّة. ولكنْ في 1938، غيَّر خطابَه: إذْ قال:" مِن الواضِح أنَّ البْريطانِيِّين يَعرِفون جيِّداً كيف يَستغلُّون الاِحتِياجات الأوليَّة للعامِل اليهودي، أي الهِجرة والاِستِيطان؛ وكِلاهُما لا يتعارَضَان مع الاِحتياجات الحقيقيَّة للجماهير العربيَّة"، ("السياسة البريطانيَّة في فلسطين"، ذي نْيو أنتَرناشْيونَل"، تشرين الأول/أكتوبر 1938، التشديد مِنَّا). وغَنيٌّ عن البَيان أنَّ الهِجرة الجماعيَّة لليهود إلى فلسطين واِستِعمار هذا البلد يَتعارَضان، باِلفِعل، مع الاِحتِياجات الحقيقيَّة للجماهير العربيَّة. ومِمَّا يزيدُ مِن أهميَّة هذه الكلِمات أنها كُتبت في أَوَجِّ الثَّورة العربيَّة الكبرى ضدَّ الاِستيطان الصُّهيوني.
لم تكُنْ هذه المواقف مَدعومَة، بِالإِجماع، في الحركة التْروتْسْكِيَّة. فقد اِنتقدَ التْروتْسْكِيُّون الجنوب أفريقيُّون كلام "كْليفْ"، بِشدَّة، بِقولِهِم:
"يُحِبُّ المُدافِعون النَّقدِيون عن الصُّهيونيَّة القادِمون مِن "اليسار"، الذين يُسمُّون أنفسَهُم اِشتراكيِّين وشيوعيين، أنْ يتحدَّثوا عن مارْكْسْ والدْيالكْتيكْ، ولكنَّ اِشتراكيتَهم ليست أعمَق مِن بِشْرَتِهِم. إنَّهُم مَصدومون مِن أنَّ الغضَب العربي لا ينقلِب ضدَّ الإمبرياليَّة البريطانية فحسبْ، بل ضدَّ اليهود في فلسطين، أيضاً. هؤلاء اللِّيبرالِيون غير قادِرين على فهْم السَّبب الذي يجعل العرب عندما يُواجِهون جبهةً صُهيونيَّة مُوحَّدة من البرجوازية والعمال، مُعادِية لهُم ومُتحالِفة مع عدوِّهِم وهو الإمبريالية البريطانية وداعِمة له، فَيَستَنْتِجون بأنَّ كلَّ اليهود في فلسطين صهايِنة وبالتَّالي فهُم أعداءٌ لهُم. ومِن الواضِح أن هذا الاِستِنْتاج خاطِئٌ، ولكنْ أيْن هي الإشارات التي قد تُوضِّح ذلكَ للعرب؟".
— الصُّهيونيَّة والنِّضال العربي"، تشرين الثاني/نوفمبر 1938، أعيدَ نَشرُهُ في الأمَميَّة الجديدة، شباط/فبراير 1939
كان هذا نقدًا مُستَبْصراً، لكنَّه لم يُدرَج، أبدًا، في مُمارسةِ أو في بَرنامَجِ التْروتْسْكِيِّين في فلسطين.
لقد كانت الصُّعوبات التي واجهتْها الحركة التْروتْسْكِيَّة العالميَّة في إطلاقِ برنامجٍ صحيح بِشأن قضيَّة فلسطين تَرجِعُ، إلى حدٍ كبير، إلى كونِها قد هلَكتْ خلال الحرب العالميَّة الثانيَّة. إذْ أنَّ "تْروتْسْكي" نفسَه قد اُغتيلَ في عام 1940 بأمرٍ مِن "سْتالينْ"، كما قُتِل العديدُ مِن قادَة الأمَمِيَّة الرابعة الأكثر خِبرة، مِثل "أبراهامْ لِيُّونْ"، على يد السْتالِينِيِّين أو النازيِّين. لقد خرجَتْ الحركة التْروتْسْكِيَّة مِن الحرب ضعيفة ومُشوشَّة بِسبب التغيُّرات العميقة التي حدثتْ في العالَم؛ ففيما يتعلَّق بفلسطين والمسألة اليهوديَّة، كانت هذه الحركة الضَّعيفة تتعرَّض إلى ضُغوطٍ قويَّة حتى تَتوافَق مع الصُّهيونيَّة: وقتئذٍ، كُنَّا في أعقابِ الهولوكوسْتْ، وكان مِئات الآلاف مِن النَّاجين الذين مُنِعوا من دُخول البُلدان الإمبرياليَّة يقبَعون في مُخيمات النَّازحين. وكانت هذه الضُّغوط أكبَر لأنَّ السْتالِينِيِّين والاِشتراكيِّين الديمقراطيِّين ومُعظَمَ الحرَكة النَّقابِيَّة الأمريكيَّة والأوروبيَّة دعَّموا إِنشاء إسرائيل.
وقد اِنْعكسَ اِرتباكُ التْروتْسْكِيِّين في "مشروع أطروحات حول المسألة اليهوديَّة بعد الحرب الإمبرياليَّة الثانية"، لعام 1947. وتحتوي هذه الأطروحات، التي كتبها "إِرْنِسْتْ مانْديلْ"، أحدُ قادَة الأمَميَّة الرابِعة، على العديدِ مِن الحُجَج الصحيحة، بما في ذلك ما يلي:
"إذا كان يتوجَّب على الأمَميَّة الرَّابعة بذلَ كُلِّ ما في وُسعِها لِنُصح اللاَّجئين اليهود بِعدَم الهِجرة إلى فلسطين، وإذا كان عليها، كجزءٍ من حركة التضامن العالمي، أنْ تُحاوِل حَملَهُم على فتحِ أبوابِ البُلدان الأخرى، وتحذيرهم مِن أنَّ فلسطين هي كَمين حقيقي لهُم، فيَجِب عليها، في دعايتِها الملموسة، فيما يتعلَّق بِمسألةَ هِجرةَ اليهود، أنْ تنطلِق في دعايتِها مِن سِيادة السُّكان العرب".
الأممية الرابعة يناير_فبراير 1948
لكنَّ هذه الأطروحات أكدَّتْ، أيضاً، على أنَّ إنشاءَ دولةٍ صُهيونيَّة كان أمْراً طوباوِيًا، بينما كانتْ الأسُسَ العسكريَّة والاقتصاديَّة لِدولة إسرائيل قد وُضِعتْ بِالفعل. كما دعتْ الجماهير العربيَّة إلى اِستغلال الهجَمات على البريطانيِّين " لِمُعارضة مَطلب الاِنسحاب الفوري للقوات البريطانية بِشكلٍ، مَلموس، كل مرَّة". لكنْ هذه الهجمات كانتْ مِن تنفيذ الـ "إرْغُونْ"، وهي ميليشيا صُهيونِيَّة مُتطرِّفة، ضدَّ القُيود المفروضة على الهِجرة اليهوديَّة! ولم تعتَرِف هذه الأطروحات بأنَّ البريطانيِّين كانوا، في الواقع، في طوْر الاِنسحاب مِن فلسطين وأنَّ الإرهابَ الصُّهيوني كان مُقدِّمة للتَّهجير الجماعي للفلسطينِّيين.
أمَّا بالنسبة للنَّكْبَة نفسِها، فقد جاء الاِستِسلامُ الأكثرُ جَلاءً أمام الصُّهيونيَّة مِن حزب العُمَّال بِزعامة "ماكْسْ شاشْتْمانْ" في الولايات المُتَّحدة؛ إذْ دعَّمَ حزبُ العمال إنشاءَ إسرائيل، مُدَّعيًا أنَّ حربَ إسرائيل ضدَّ البُلدان العربيَّة كانتْ حربَ تحريرٍ وطنيٍّ. ورحَبَّ الحزبُ بِإعلان اِستقلال إسرائيل كما ندَّد بِتدخُّل الدُّول العربيَّة بالعبارات التَّالية:
" عند غزْوِ دِفاعات [إسرائيل] وتهديدِ اِستِقلالِها، كان الهُجوم الرِّجعي مِن طرف بعض أكثرِ المَمالِك والعُروش تَخلُّفاً ورِجعيَّة في العالم، وهي الأنظمة شِبه الإقطاعيَّة المُضطَهِدة للشَّعب العربي. لقد شُنَّ هذا الغَزوُ الرِّجْعيُّ لِغرضٍ واحد – وتحديداً لِحِرمان الشَّعب الإسرائيلي مِن حقِّه في تقريرِ مَصيرِهِ".
ــ هالْ دْرابِرْ، "كيف يُدافَع عن إسرائيل"، ذي نيو أنترناشيونل، تموز/يوليو 1948
كانت هذه السياسة الصُّهيونيَّة الرِّجعيَّة نتيجةً مُباشِرة للاِنشقاق الذي حدَث بين حزب العُمَّال وتْروتْسْكِيِّي حزب العُمَّال الاِشتِراكي في الولايات المتحدة في عام 1940. إنَّ هذا الاِنْشِقاق، النَّاجِم عن رفْض "شاشْتْمانْ" وزُمْرتِه الدفاعَّ عن الاِتحاد السُّوفْييتي، كان اِنعِكاساً لِضُغوطَ الرَّأي العام البُرجوازي الصَّغير، ولا سِيَما في الأوساط الاِشتراكيَّة اليهوديَّة في نْيويُورْكْ.
أما الأُمَميَّة الرَّابِعة، فإنَّها على الأقل، عارَضتْ خُطَّة الأمَم المُتَّحدة لِتقسيمِ فلسطين. فعلى سبيل المِثال، كتَبَ الحزب الشُّيوعي الثَّوري البريطاني، بأنَّ "تقسيمَ فلسطين رِجعِيٌّ مِن جميع النَّواحي - فلا اليهود ولا الجماهير العربيَّة ستَستفيدُ مِنه شيئًا" (النِّداء الاِشتراكي، كانون الأول/ديسمبر 1947). ومِن جِهته، نشَر حزبُ العُّمال الاِشتراكي الأمريكي مقالاً اِفتتاحيًّا ذكرَ فيه، بِحق، أنَّه "لا يُمكن لليهود أنْ يُنشِئوا لِأنفُسِهم دولةً على حِساب الحُقوق الوطنيَّة للشُّعوب العربيَّة. فلا يتعلَّق الأمرُ، هنا، بِتقرير مصير بل باِحتلال أراضي شعبٍ آخَر" (ذي ميليتَنتْ"، 31 أيار/مايو 1948، التَّشديدُ مِنَّا).
ومع ذلك، ففي الحرب بين الصَّهاينة والجامعة العربيَّة، رفضَتْ الأمَمِية الرَّابِعة الاِنحيازَ إلى جانِب العرب، وندَّدت بِكلا الطرفيْن باِعتبارِهما رِجْعييْن على حدٍ سَواء. وجاء في اِفتِتاحيَّة حزبِ العُمَّال الاِشتراكي نفسِها:
" والقادَة العرب، هُم، أيضاً، لا يخوضون نِضالاً تقدُّمياً مِن أجل الاِستقلال الوطني وضدَّ الإمبرياليَّة. إنَّهم بِحربِهِم ضدَّ اليهود، يُحاوِلون تَحريفَ النِّضال ضدَّ الإمبرياليَّة واِستغلالَ تطلُّعات الجماهير العربيَّة في التَّحرُّر الوطني لِخنْق المُعارَضة الاِجتماعيَّة لِحُكمِهم الاِستِبدادي".
وفي فلسطين، أبْدتْ الرَّابِطة الشُّيوعيَّة الثَّوريَّة الموقفَ نفسَه في افِتتاحيَّةٍ بِعنوان "ضدَّ التَيَّار"، ومِن بيْن ما جاءَ فيه: " نَقولُ لِلعُمَّال اليهود والعرب: إنَّ العدُوَّ موجودٌ في مُعسكَرِكُم!" (الأمَميَّة الرابِعة، أيار/مايو 1948).
لقد كان هذا الموقفُ خاطِئًا تمامًا؛ إذْ كانتْ حربُ 1948 حربَ تَوسُّعٍ وطنيٍّ شنَّها الصَّهايِنة ضدَّ السُّكان العرب الفلسطينيِّين. وعلى الرَّغم من الطبيعة الرِّجعيَّة للمَلك "عبد الله" والزعماء العرب الآخرين، وكُلِّ مَكائِدِهم، إلاَّ أنَّهُم كانوا يُحارِبون، فِعلاً، ضدَّ التَّطهير العِرقي للفلسطينيِّين. وبِبساطة، فإنَّه مِن الخَطأ اِعتبارُ اِنتصارِ الجامعة العربية رِجعيًا مثل اِنتصار إسرائيل؛ فبالنسبة للفلسطينيِّين، كان الاِنتصار العربي سيَسمح لهُم بالبَقاء في ما كانتْ، تاريخيًا، أرضُهُم. ولو أنَّ الحربَ تحولَّت، بِطريقةٍ ما، إلى حربِ اِضطِهاد ضدَّ السُّكان اليهود، لتغيَّر طابعُها، ممَّا يستدعي ردًا مُختلفًا. ولكنَّ الأمرَ لم يكُنْ كذلكَ، إطلاقاً.
وكما هو الحال، الآن، جادَل البعضُ بأنَّ الروابِط بين جامعة الدول العربية والإمبريالية البريطانية كانت دليلاً على أنَّ كِلا الجانبيْن في هذه الحرب كانا رِجْعيَيْن. صحيحٌ أنَّ إسرائيل والمعسكر العربي كانا مَدعوميْن، بِدرجةٍ أو بِأخرى، مِن قِبَل قوى إمبرياليَّة مُختلفة. لكنَّ ذلك كان عامِلا ثانويًّا؛ فلم تكُن هذه الحرب تَخُصُّ التَّنافس بيْن مُختَلف الطُّموحات الإمبرياليَّة في المنطقة، بلْ كانتْ تتعلَّق بِطردِ الفلسطينيِّين مِن أراضيهم. وحربُ 1948 وكلُّ ما أعقبَها مِن حُروب – 1967، 1973، 1982، إلخ. – كانتْ حروباً توسُّعيَّة مِن جانب الصَّهاينة. وكان المَوقفُ الصَّحيحُ الوحيدُ للمارْكْسِيِّين في هذه الصِّراعات هو دَعمُ مُعسكرِ فلسطين والعرب.
لقد رفَض َالتْروتْسْكِيُّون القيامَ بذلك في عام 1948، فاِستَسْلموا للصُّهيونيَّة في مُواجهة النَّكبَة، إنَّها خِيانة تامَّة. ومع ذلك، فإنَّ جميعَ التْروتْسْكِيُّين الحالِيِّين، تقريباً، يَرون فيه مِثالا يجِب الاِحتذاءُ به، مِمَّا يَجعل التَّدخُّل الثَّوري مُستحَيلاً، اليوم: كان هذا هو حالُ مُنظمَّتِنا (إلى وقتٍ قريب)، ولا يزالُ كذلك بالنسبة للأمَميَّة الشُّيوعيَّة الثَّوريَّة، والاِتجاهيْن البلُشُفِيَّيْن، وهُما "الرابطة مِن أجل الأمَميَّة الرابعة" والفصيل التْروتْسْكي للأمَميَّة الرَّابِعة_صوت اليسار. إذْ كتبتْ صوت اليسار" ما يلي:" إنَّنا نَعتَقدُ أنَّه كانت للتْروتْسْكِيُّين اليهود الفلسطينيِّين في أواخِر أربعينيات القرن الماضي الرؤية الواقعيَّة الوحيدة لِحلِّ الصِّراع" ("مهزلة حلِّ الدولتيْن" والمَنظور الاِشتراكي من أجل فلسطين”، 16 ديسمبر 2023). ونترك لصوت اليسار أن تشرَحَ كيف ساهَم المَوقفُ الاِنهزاميُّ مِن النَّكْبة، بأيِّ شكلٍ من الأشكال، في حلِّ الصِّراع.
الخطُّ الأخضَر
تُشكِّل الحُدودُ التي تمَّ تحديدُها عقِب الاِنتصار الإسرائيلي في حرب عام 1948 ما يُسمَّى بـ "الخطِّ الأخضَر"، وقد تمَّ الاِعترافُ بِه بِموجبِ لائِحة مجلس الأمن الدُّولي رقم 242 بعد حرب عام 1967. وقد أصبَحتْ هذه اللائحةُ حجَرَ الزَّاوية في الصِّراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ فهيَ كانت بِمثابة الأساس لِمُعاهدات السَّلام الإسرائيليَّة مع مصر (1979) والأردن (1994)، واِتفاقيات أوسْلو عام 1993، وجميع المناقشات حول حلِّ الدَّولتيْن. وإليك ما كتَبَهُ نايِف حَواتْمة، زعيمُ الجبهة الدِّيمقراطية لتحرير فلسطين، عن اللائحة 242 وهو مُحِقٌّ في ذلك:
"إنَّ قبول هذه اللاَّئحة يعني بِشكلٍ مُباشر:
"(1) المُوافقة على الغَزو وخسارة الأراضي التي عانى منها شعب فلسطين عام 1948.
“(2) تصفيَّة حركة المقاومة الفلسطينية لِضمان حُدودِ دولةِ إسرائيل.
"(3) إدامة وجود دولة توسُّعية مُرتبِطة، بشكل وثيق، بالإمبرياليَّة الأمريكيَّة بِحكم المَصالح المُشترَكة لِلطرفيْن في الحِفاظ على وُجود إسرائيل كأداةٍ للتَّوسُّع وقمْع ِحركة التَّحرُّر الوطني في الشَّرق الأوسط".
- "الحل الدِّيمقراطي لِمشكلة فلسطين"، 12 يناير 1970، أُعيدَ نشرُه في كتُيب الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين "برنامج أغُسطُس والحلِّ الدِّيمقراطي"، بِدون تاريخ.
يجِب أنْ يُستنتَج، بِوضوح، مِن كل هذا، أنَّنا لا نَستطيعُ الحديثَ عن تحرير فلسطين على أساسِ الخطِّ الأخضَر واللاَّئحة 242. لكنَّ اللِّيبرالييِّن المُؤيِّدين للفلسطينيِّين مِثل حركة المُقاطعة، والصَّهاينة اللّْيبراليِّين أمْثال " نورْمانْ فينكْلِشْتايْنْ" ومجموعة "غوشْ شالومْ"، وأيضاً، الإِصلاحِيِّين مِثل الحزب الشيوعي في اليونان، يُدافِعون عن الخطِّ الأخضَر، الذي يُشكِّل، بالنِّسبة لهُم، الحدودَ المشروعة لإسرائيل. وتهدف هذه الحُجَّة إلى خلْقِ تمْييزٍ زائف بين الأراضي المَسروقة مِن الفلسطينيين خلال حرب عام 1948 وتلك التي سُرقت في مَراحِل التَّوسُّع اللاَّحِقة. ولذلك فإن الأراضي المُحتلة بعد عام 1967 فقط هي التي تُعتبَر "أراضٍ مُحتلَّة". ومِن السَّهل على الصَّهاينة اللِّيبراليِّين الأثرِياء الذين يعيشون في "تلْ أبيبْ" أنْ يتحدَّثوا، باِزدِراء، عن اليهود الأكثرُ فَقراً الذين يعيشون في الضِّفة الغربيَّة باِعتبارِهم "مُستوطِنين". والحقيقة هي أنَّ دولة إسرائيل بِأكمَلِها هي مُستعمَرة اِستيطانيَّة قائِمة على تجريدِ الفلسطينيِّين مِن مُمتلكاتهم. إنَّ مُستوطِني الضِّفة الغربيَّة الذين يبلُغ عددهُم سبعمائة ألف، والذين عاش بعَضُهم، هُناك، عقُوداً مِن الزمن، لا يختلِفون جوْهرِياً عن أولئك الذين يعيشون في بَقيَّة إسرائيل.
وبعيداً عن السَّماح للصَّهاينة اللِّيبراليين في "تلْ أبيبْ" أو "نيويورْكْ" بالتَّمتُّع بِضميرٍ مُرتاح، فإنَّ مُعارَضة التوسُّعات الإسرائيليَّة في مرحلة ما بعد عام 1967 هي وحدَها التي تُغذِّي الوَهم بِإمكانيَّة التَّوصُّل إلى حلِّ للقضية الفلسطينيَّة في هيئة نصف إجْراءٍ إصلاحيٍّ حيثُ يفتَح الإسرائيليون أعيُنَهم، وينسحبِون إلى ما وراء الخطِّ الأخضر، ويَتركون الفلسطينيين يَبنُون دولةً تابِعة. إنَّ تصديقَ ذلك يعني عدَم فهْمِ أيِّ شيءٍ في المشروع الصُّهيوني، الذي سيُقاتِل المُدافِعون عنْهُ حتى الموت مِن أجل كل سنْتيمِتر مُربَّع مِن "أرضِ الميعاد" المَسروقة مِن الفلسطينيِّين.
إنَّ طرحَ شِعارات مِثل "نِهاية الاِحتِلال" و" اَخرِجوا الجنودَ والمُستوطِنين الإسرائيليِّين مِن الأراضي المُحتلة" (في إشارة فقط إلى المناطق الواقِعة خارج الخَط الأخضر) هو بِمثابة قبَولٍ ضِمْنِيٍّ بِشَرعيَّةِ دولةِ إسرائيل. ومِن الواضِح أنَّه تَتعيَّن المُقاومة العسكريَّة لاِعتداءات المُستوطِنين المُتعصِّبين والاِحتلال، بشكلٍ عامٍ على الأراضي الفلسطينية. لكنَّ الاِعتقادَ بأنَّ مُشكلةَ السَّبعمائة ألف مُستوطن الذين يَحتلُّون الضِّفة الغربيةَّ يُمكِن حلُّها دونَ تفَكيكِ دولةِ إسرائيل هو وَهَمٌ خطيرٌ يُمكِنُ للصَّهاينة اِستغلالَه لِتقْييد أيْدي الحرَكة الفلسطينيَّة.
التَّقليدُ السبارْتاكي
يتوجَّب علينا أنْ نُعالِج هنا الإرثَ المُلَوَّث لاِنحيازِنا في قَضيَّة فلسطين. إنَّ الاِتِّجاه الثَّوري، أي المُعارضة داخِل حزبِ العُمَّال الاِشتراكي الأمريكي الذي أدَّى إلى نُشوءِ الرَّابطة السبْرْطاكْيَّة، في سِّتينيات القَرن الماضي، كانتْ تَقودُهُ مجموعةٌ مِن الكَوادِر المُنحدِرة مِن الرَّابطة الاِشتراكيَّة المُستقِلة بزعامة "ماكْسْ شاشْتْمانْ". وعلى الرَّغم مِن مَعركتِها الصَّحيحة ضدَّ اِنحطاط حزب العُمَّال الاِشتراكي، فقد جلَبَتْ هذه الكَوادِر مَعها التَّقليدَ الشَّاشْتْماني بِخُصوص فلسطين. ويتجلىَّ هذا الأمرُ، بِشكلٍ أوضَح، في مَقال نُشِرَ في عام 1968 بعنوان "الصِّراع العربي الإسرائيلي: أدِيرُوا الأسلحة إلى الوراء! " (سبارْتاسِيسْتْ رقم 11، مارس-أبريل 1968، باللغة الإنجليزية). وهذا المقال لمْ يَتبنَّ موقفًا داعِمًا لإسرائيل في حرب 1948، بِمُراعاة الماضي فحسْبْ، بلْ دعا، أيضاً، الطرفيْن إبداء مَوقفٍ انِهِزاميٍّ في حرب التَّوسُّع الصُّهيوني في عام 1967. كما دعا إلى "توقيع مُعاهدة سَلام على أساسِ خطّْ هُدنَة عام 1949، وبالتالي اِعتراف العرَب بِحقِّ أمَّةٍ عِبْريَّة في الوُجود".
وقد جرى تعديلُ هذا الموقف المُؤيد لِإسرائيل في مقالٍ هامٍ بِعنوان "ولادةُ الدَّولة الصُّهيونيَّة" الجُزء الثاني ( "وورْكَرْزْ فونْغارْدْ "العدد 45، 24 مايو 1974)؛ و فيه تبنى التيَّار السْبارْتاكي الخطَّ الأقلَّ رِجعيَّة مِن ذاكَ الذي أبْداهُ حزبُ العُمَّال الاِشتراكي بشأن حرب 1948 – اِنهزامِيَّة الجانبيْن. ومِن المُثير للسُّخرية أنَّنا سوَّغْنا هذا التَّغيير ليس بِحقيقة كوْن الموقفِ السَّابِق صُهيونيًا بشكلٍ علني، ولكنْ بِظهورِ "وقائِع جديدة".
عَلاوة على ذلك، أبْدى هذا المَقال ما يُسمَّى بِالنظريَّة المَزعومة حول تداخُل الشُّعوب، إذ جاء فيه:" إنَّ المسألة الدِّيمقراطية المُتمثِّلة في تقرير المصير لكلٍّ مِن القوميتيْن، أو الشَّعبيْن، اللذيْن يتداخلَان جغرافيا، لا يمُكِن حلُّها، بِشكلٍ مُنصِف، إلاَّ في إطار اِستيلاء البِروليتارْيا على السُّلطة". صحيحٌ أنَّه مِن أجلِ حلِّ الصِّراع الفلسطيني، بصفة عادلة، يجِب على البِروليتارْيا أنْ تَستَولي على السُّلطة. لكنَّ هدفَ هذه النظريَّة كان تصويرُ الكِفاح مِن أجل تقرير المصير الفلسطيني على أنَّه غيرُ شَرعي مِن خِلال تَحريكِ البُعبُع القائل بأنَّ أيَّ نضالٍ في هذا الاِتجاه مِن شأنِه أنْ يَنتهِكَ حقَّ الإِسرائيليِّين في تقرير المصير. وفي هذا السِّياق، أطلقَ التيَّار السْبارْتاكي نداءاتٍ مُجرَّدة مِن أجْلِ الوَحدة الطَّبقيَّة مِن خِلال طرحِ شعاراتٍ مِثل " ليْس اليَهود ضدَّ العرب، بلْ طبقة ضدَّ طبقة!" ". وفي السَّنوات الأخيرة، أدانَتْ دِعايةُ تياَّرِنا، بِحزمٍ، التَّرهيبَ الصُّهيوني، لكنَّها ما زالتْ ترفُض وضْعَ مسألة التَّحرير الوطني للفلسطينيِّين في مركز أيِّ منْظُورٍ ثوري.
إنَّ مسألةَ تقرير المصير، في نظَر إسرائيل، هي مُجرَّد وَهْم؛ إذْ للإسرائيليِّين دولةٌ، بالفِعل، وغرَضُ وُجودِها هُو مَنع الفلسطينيِّين مِن التَّوفُّر على دولتِهم. وفي الوضع الحالي، فإنَّ رفضَ الكفاح مِن أجل تقرير المصير الفلسطيني باِسم حقِّ الإسرائيليِّين يرقى، ببساطة، إلى الدِّفاع عن الوضْع الصُّهيوني الرَّاهن. والسُّؤال الحقيقي، هُنا، هو أنَّه ينبغي على الفلسطينيِّين أنْ يمارِسوا حَقَّهُمْ في تقرير المصير على نَحوٍ يتَّفقُ مع اِستمرارِ وُجود أمَّة يهوديَّة في الشرق الأوسط. ولنْ يكون ذلك مُمكنا إلاَّ في شكلِ دولةٍ مُوحَّدة ثنُائيَّة القوميَّة تقومُ على إنْهاءِ الظُّلم التَّاريخي المُرتَكَب ضدَّ الفلسطينيِّين، وحيثُ يتمتَّع كلِا الشَّعبيْن بِحقوق ديمقراطيَّة كامِلة في اللُّغة والثَّقافة والدِّين. ولا يمكنُ إنشاءُ مِثل هذه الدولة إلاَّ مِن خلال تَحطيمِ الدَّولة الصَّهيونيَّة وبواسطة التقلُّبات الثَّوريَّة في المنطقة بأِكملِها.
لقد رَفضتْ الرَّابطة الشُّيوعيَّة الدُّوليَّة، الآنَ، وبِشدَّة، النَّظريَّة المارْكْسِيَّة الزَّائفة القائلة بِتداخُل الشُّعوب؛ لكنَّ المُنظَّمات الأخرى، التي ورثَتْ تقاليدِنا – الرابطة مِن أجلِ الأُمَميَّة الرَّابعة، والتياَّر البُلْشُفي، والتيَّار البُلْشُفي الأُمَمي –، تُواصِل الدفِّاع َعنْ إِرثِ الاِستِسْلام للصُّهيونيَّة.
القومِيَّة العربيَّة وهزيمة 1967
في الفترة التي أعقبتْ الحرب العالمية الثانيَّة، اِندلعتْ الاِنتفاضاتُ المُناهِضة للاِستِعمار في جميعِ أنحاء العالم، مِن فيتنام إلى أمريكا اللاَّتينيَّة مُروراً بالجزائر. وفي مصر، أطاح اِنقلابُ الضُّباط الأحرار في عام 1952 بالمَلك "فاروق"، دُميَة بريطانيا، وحمَل إلى السلطة العقيد "جمال عبد النَّاصر"، القومي الرَّاديكالي. ورداً على الهزيمة التي مُنيَت بها بلادُه أمام إسرائيل عام 1948، سَعى "عبد الناصر" إلى تحريرِ مِصر مِن الإمبرياليَّة وتحديثِ دولتِه. ودافع، بِقوَّة، عن القومية العربيَّة ووَحدة البُلدان العربيَّة لِطردِ الإمبرياليِّين والصَّهاينة مِن المنطقة. وفي عام 1956، أمَّمَ "عبد الناصر" قناة السُّويسْ من خِلال مُصادرة مالِكيها البريطانيِّين والفرنسيِّين ومنَعَ مُرورَ السُّفن الإسرائيليَّة مِنها. كان هذا الإجراءُ شائعًا للغاية في الشرق الأوسط وفي جميع أنحاء العالم الثالث، آنذاك. ورداً على ذلك، غَزتْ كل ٌّ مِن إسرائيل فرنسا وبريطانيا مصرَ. ولكنْ أمام ضُغوط ٍشديدة من الولايات المُتَّحدة والاِتِّحاد السُّوفْييتي، اِنسحبَتْ القُّوات الغازِية، بعد فترةٍ وجيزة، ومُنِيَتِ بِهزيمة مُذِلَّة.
وفي مايو 1967 أغلقَ "عبد النَّاصر" القناةَ، مِن جديد، أمامَ السُّفن الإسرائيليَّة. وردتُ إسرائيل فَدمَّرتْ كلَّ القوات الجويَّة المِصريَّة، تقريبًا، في ضربةٍ اِستباقِيَّة ثم شنَّتْ هجومًا بريًا على شِبه جزيرة سيناء المِصرية وقطاع غزَّة الذي كان، آنذاك، تحتَ اِحتلالٍ مصري. وقد أدَّى ذلك إلى اِندلاع حربٍ جديدة بين الجامعة العربيَّة وإسرائيل، اِنتهتْ، مرةً أخرى، بِهزيمة كارِثيَّة للعرب. وفي نِهاية ما أصبَح يُعرَفُ بِحربِ الأيام السِّتة، اِستولتْ إسرائيل على مُرتفعات الجُولانْ السُّوريَّة، والضِّفة الغربيَّة التي ضمَّها الأردن إليه، سابِقاً، (بما في ذلك القُدس الشَّرقيَّة)، وقطاع غزَّة. وتمَّ طردُ حوالي 300 ألف فلسطيني، مِن بين ما يَقلُّ قليلاً عن مليون شخص، مِن الضِّفة الغربيَّة؛ لقد كان ذلك نُزوحًا سُكانيًا جديدًا كانتْ له عواقِبٌ طويلة المدى.
حتَّى ذلك الوقت، كان الوطنيُّون الفلسطينيُّون يُعلقِّون آمالَهم في التَّحرُّر على الأنظِمة العربيَّة مِثل نِظام "جمال عبد النَّاصر". لكنَّ هزيمة 1967 أظهرتْ، بوضوح، أنَّ إسرائيل، بِدعمٍ مِن الإمبرياليِّين، تفوَّقتْ، بكثير، على القوات العربيَّة في حربٍ تقليديَّة. وفي أعقابِ هذه الهزيمة، وفي مُواجَهة خيانات الأنظِمة العربيَّة التي لا نهاية لها، تَوصَّل الوطنيُّون الفلسطينيُّون إلى أنَّهُم بِحاجة إلى قَدرٍ أكبر مِن الاِستقلال عن عرَّابيِهِم، فَكثَّفوا اِستراتيجيتِهم في حرب العِصابات المُستَوْحاة مِن النَّموذجيْن الكوبيِّ والفيتنامي.
وفي هذا السِّياق، أصبحتْ منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة، بِقيادة "ياسِر عرَفاتْ،" القوة الرئيسيَّة للحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة. وفي اِنعِكاسٍ لهذا التَّوجُّه الجديد، قامَ "عَرفاتْ" بِمُراجَعة الميثاق الوطني الفلسطيني في عام 1968، وأكد، أنَّه مِن الآن، سيُشكل عمَلُ الكومانْدوس مركزَ حربِ تحريرِ الشَّعب الفلسطيني". بَقيَتْ مُنظمة التَّحرير الفلسطينية بِحاجة إلى دعْم الأنظمة العربية لها، وهو الدَّعم الذي ضمِنتْه مِن خلال تبنِّي مبدأ "الحِياد"، أي الالتزام بَعدَم اِنتقاد هذه الأنظِمة. وقد اِنتقدَتْ الجبهة الشَّعبيَّة لتحرير فلسطين والجبهة الدِّيمقراطيَّة لتحرير فلسطين، وهُما منظمتان يَسارِيتان أخْريان مُستوحاتان مِن المارْكْسِيَّة ـ اللينِينيَّة، هذا الاِستِسلام، لكنَّهما اِشترَكتا، بشكل عام، في اِستراتيجيَّة حرب العِصابات التي اِتبَّعتْها مُنظمة التَّحرير الفلسطينيَّة. وتميَّزتْ أواخر السِّتينيَّات والسَّبعينيَّات مِن القرن الماضي بِسلسِلة من عمليات الاِختِطاف والتَّفجيرات واِحتِجاز الرَّهائن، مِنها تلكَ العمليَّة التي انِتهَتْ بِمقتل رياضيِّين إسرائيليِّين خِلال الألعاب الأولمبيَّة في "ميونيخ"، عام 1972.
لقد تمَّ، على الدَّوام، رفضُ الإرهاب الفردي كتَكتيكٍ من طَرَف الحرَكة المارْكْسِيَّة، التي أسَّستْ وِجهَة نظرِها على تعبِئة الجماهير العامِلة. إنَّ طبيعة الصراع الفلسطيني تمنَحُ مسارَ حرب العصابات دوراً أكثرَ يأْساً ومُؤدِّياً إلى نتائجَ عكْسيَّة. وبادئَ ذي بِدء، فإنَّ الدَّولة الإسرائيليَّة، خِلافاً لـِ "جُّمهوريَّات المَوز" التي يُحافظ عليها الفسادُ الإمبريالي، تعتمِد على الذِّراع المُسلَّح لأُمَّةٍ بأكملِها. وعلاوةً على ذلك، ونظراً للدَّعم الهائل الذي تتلقَّاه دولةُ إسرائيل مِن رُعاتِها الإمبرياليِّين، لا يستطيعُ الفلسطينيُّون كسرَها بالوسائل العسكريَّة التقليديَّة، ناهيكَ عن تكْتيكات حربِ العصابات. ثانيًا، لا تُؤدِّي الأعمال الإرهابيَّة ضد المدنيِّين الإسرائيليِّين، بما في ذلك تلك التي اِرتكبتْها "حَماس" في 7 أكتوبر 2023، إلى إضعافِ القَلعة الصُّهيونيَّة، بل على العكس مِن ذلك، تُقوِّيها من خِلال توحيدِ السُّكان، بشكلٍ أوثَق، مع قادتِها. ثالثاً، كان هدفُ مَسار حرب العِصابات في فلسطين دائماً هو الضَّغط على الأنظمة العربيَّة أو القوى الإمبرياليَّة للتَّوسُّط لِصالِح الفلسطينيين - وهو مَسعىً عقيماً واِنتحارياً.
ولا يعني هذا أنَّ المارْكْسِيِّين يرفُضون المُقاومة المُسلحة. بل على العكس، تماماً. إنَّ المُقاومة العسكرية، بما في ذلك في جبهات مُوحَّدَة مع القوى القوميَّة، تُشكِّل أهميَّة بالِغة. ولكنْ عليها أنْ تكونَ جُزءاً لا يتجزَّأ مِن اِستراتيجيَّة ثوريَّة أوسَع نِطاقاً، والتي يجب أن تتضمَّن الجهودَ الرَّامِية إلى كسْب تأييدِ قطاعات من المجتمع الإسرائيلي، وخاصة الطبقة العامِلة. وهذا ليس لِأسبابٍ إنسانية، بل لأنَّه ضرورةٌ حيويَّة للقضية الفلسطينيَّة. وبِبساطة، لا يُوجَد خَيار آخَر سِوى تحطيمُ إسرائيل مِن الداخل. وحتى لو هُزمتْ إسرائيل بوسائل عسكريَّة بَحتة، فما علينا إلاَّ أنْ نتذكَّر معركة "مَسْعدَة"، حيث اِختارَ اليهودُ المُحاصَرون مِن قِبل الرُّومان الاِنتحارَ الجماعي بدلاً مِن الهزيمة، لكي نَفهَم ما قد يكون المُتعصِّبون الصَّهاينة على اِستعدادٍ للقيام به إذا واجَهوا تَهديداً وُجُودياً مِن الخارج.
وبعد عام 1967، حدَثَ تحوُّلٌ لِأغلبِ اليسار الغربي: فبعدَ أنْ اِستَسلم للصُّهيونِيَّة اللِّيبرالِيَّة، بدأ يهتِف للمُقاومة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك تبرير النَّزعة إلى حربِ العِصابات. وقد منعَ هذا الأمرُ تَوَجُّهَ أفضَلِ النَّاشِطين الوطنيِّين نحوَ الشُّيوعيَّة. وفي نهاية المَطاف، جرى ذبحُ العديدِ مِن أفرادِ هذا الجيل من المُقاتلِين الشُّجعان على يدِ المُوساد. وهكذا اُغتيلَ "غَسَّان كنَفاني"، أحدُ قادةِ الجبهة الشَّعبيَّة لِتحرير فلسطين، عام َ1972، بِقُنبلة وُضِعَتْ في سيارتِه.
واليوم، كما كان الحالُ في الماضي، يجَبُ علينا أنْ نُعارِض أسلوبَ الإرهاب الفردي. وبدلاً من تَملُّق الوطنيِّين الفلسطينيِّين، فإنَّ واجِبَ المارْكْسِيِّين هو إقناعُهُم بِمنظور الطبَقة العامِلة الأُمَمي. وكما أوضَحَ "لينينْ" في المَقال الذي سبَق ذكرُه، فإنَّه:
"مِن ناحِية أخرى، على الاِشتِراكِيِّين في الأُمَم المُضطَهَدَة أنْ يَسْعوا إلى تعزيزِ وتحقيقِ الوحدة الكامِلة والمُطلقة، بما في ذلك على المستوى التنظيمي، بين عُمَّال الأمَّة المُضطَهَدَة وعُمال الأمَّة المُضطَهِدَة. وبِدون ذلك، مِن المُستحيل الحِفاظ على سياسةِ البْروليتارْيا المُستقِلَّة وتَضامُنِها الطَّبَقي مع بروليتارْيا البُلدان الأخرى، في مُواجهة جميعِ أنواع المُناورات والخِيانات والتَّلاعُبِ التي تقوم بها البُرجوازيَّة. ذلك لِأَنَّ بُرجوازِيَّة الأُمَم المُضطَهَدَة تُحوِّل، باِستِمرار، شِعارات التَّحرُّر الوطني إلى خِدعة للعُمَّال".
إشْتْراكِيو "ماتْزْبينْ" الإسرائيليُّون
تُعتبَرُ منظمة "ماتْزْبِينْ" أكثرُ المُنظمات راديكاليةً ومُعاداةً للصُّهيونيَّة في اليسار الإسرائيلي. وقد تأسَّستْ هذه المجموعة عام 1962، وتوسَّعَ نشاطُها، بعد حرب 1967، لمَّا أصبحتْ تُصرِّحُ بِأنَّ إسرائيل كانتْ دولةً اِستعماريَّة اِستيطانيَّة منذُ إنشائِها، وتُطالِب بِحقِّ تقرير مصير الفلسطينيِّين. واِتخَذتْ "ماتْزْبِينْ" مَوقفًا مَفادُه أنَّ "الاِعترافَ بِالطبيعة الأساسيَّة للاِديولوجيَّة الصُّهيونيَّة والقطيعة التاَّمة معَها هو الذي يجعَل مِن المُمكِن تأكيدُ موقِفٍ أمَمي وبالتَّالي فإنَّ ذلك يُشكِّل أساسَ نضالٍ مُشترَك بين الثَّوريين الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين" (" "التَّصعيد العسكري داخل المجتمع الإسرائيلي"، matzpen.org، 10 فبراير/شباط 1972). لكن هذه المجموعة لم تُؤْمِن بأنَّ الطبقة العامِلة الإسرائيليَّة قادِرة على القطيعة مع الصُّهيونيَّة:
“إنَّ الصراعات الطبقيةَّ، إنْ وجدت، فعلاً، في المجتمع الإسرائيلي، فإنَّها مَحدودة بِحقيقة كَونِ هذا المجتمع ككُل يتلقى المُساعَدات مِن الخارج. ويرتبِط هذا الوضع المُميَّز بالدَّور الذي تلعبُه إسرائيل في المنطقة، وطالَما اِستمرَّتْ إسرائيل في لَعِب هذا الدَّور، فإنَّ الفُرصة ضئيلة لأنْ تتَّخِذ الصِّراعات الاِجتماعيَّة الداخليَّة طابَعاً ثَورياً. ومع ذلك، فإنّ حدوثَ هزَّة ثورية في العالم العربي مِن شأنِه أنْ يغُيِّر هذا الوضْع".
— "الطبيعة الطبقيَّة للمجتمع الإسرائيلي"، matzpen.org، 10.فبراير 1972.
رأتْ "ماتْزْبِينْ" أنَّ دورَها، في إسرائيل، هو اِنتظارُ الثَّورة العربيَّة القادِمة مِن الخارج. علاوةً على ذلك، كانت تَعتقدُ أنَّ الشَّباب الإسرائيلي فقط، أي الطلاب والمُثقَّفين، همُ القادِرون على القطْع مع الصُّهيونيَّة، وليس الطَّبَقة العامِلة. إنَّ هذا النَّهج البُرجوازي الصَّغير يُعلِّق آمالَه على الأفكار "التَّقدُميَّة" المُتقلِّبة لهذه الطبقة الاِجتماعيَّة، وليس على العُماَّل الذين لديهُم مصلحةً ماديَّة في الثَّورة. ونتيجةً لذلك، كانتْ دعوةُ "ماتْزْبِينْ" إلى "تَجْريد إسرائيل مِن الصُّهيونيَّة بِمثابة نداءاتٍ أخلاقيَّة مُوجَّهة إلى الطبقة المتوسِّطة المُستنيرَة.
واليوم، تُشيدُ مجموعاتٌ مِثل حزب العُمَّال الاِشتراكي في بريطانيا بـ "ماتْزْبِينْ" ولكنها تَحتَفِظ بِأضعَف نِقاطِها. إذْ تزعَم هذه الجماعات بأنَّ الطبقة العامِلة في إسرائيل لنْ تُناضِل أبدًا مِن أجلِ الثَّورة، على عَكس العُمَّال في كلِّ مكان آخر، لأنَّها تستفيدُ مِن اضطهاد الفلسطينيِّين. إذْ تقول، على سبيل المِثال: " إنَّ مُتوسِّط رواتِب العُمَّال الإسرائيليِّين يكادُ يكون ضِعفَ رواتِب الفلسطينيِّين" (“ما هو دورُ الطبقة العامِلة الإسرائيليَّة؟”، موقع socialistworker.co.uk، 16 كانون الثاني (يناير) 2024).
صحيحٌ أنَّ العُمَّال الإسرائيليِّين يتمتَّعون بِمكانة مُميَّزة في المنطقة، بِسبب تحالُف إسرائيل مع الإمبرياليَّة الأمريكيَّة. لكنَّ اضطهادَ الفلسطينيِّين ليسَتْ في فائدة طبَقة العُمَّال الإسرائيليِّين. إنَّ الظروف المَعيشيَّة للجماهير الإسرائيليَّة أسوأُ بكِثير مِمَّا هي عليه في بريطانيا والولايات المتحدة أو ألمانيا - حيث تَحتلُّ إسرائيل المرتبة الثانية من حيث مُعدَّل الفقر بين الدُّول المُتقدمة. والظروف المَعيشيَّة الصَّعبة – عَسكَرَة المجتمع، والدَّور المُهيمِن للرِّجعيَّة الدينية، والاِضطِهاد العُنصُري، وعدمُ المساواة الفادِحة – كُلُّها نِتاجُ اِضطِهادِ الفلسطينيِّين. إنَّ هذا البِرميل مِن البارود الثِّيوقْراطي المُكوَّن مِن القَمع الطَّبقي والعِرقي والجِنساني يتِمُّ تَجميعُه، إلى حدٍ كبير، مِن خلال الاِيديولوجِيَّة الصُّهيونيَّة. وهناك، بِالفعل، أساسٌ ماديٌّ لِكسْب الطبقة العامِلة الإسرائيليَّة للثَّورة وتَحرير فلسطين، وهو الأمْرُ الذي يتطلَّب القطيعة الكامِلة مع الصُّهيونيَّة.
لِنأخُذْ مِثالَ اليهود العَرب، "المِزْراحِيِّين" (المِزْراحيمْ). هؤلاء اليهود، الذين عاشوا في جميعِ أنحاء الشَّرق الأوسط، أُجْبِروا على الهِجرة إلى إسرائيل بِسببِ تصاعُد مُعاداة السَّاميَّة التي تكانتْ تُغذِّيها الأنظِمةُ العربيَّة والاِستفزازات الصُّهيونيَّة بعد النَّكْبَة. في إسرائيل، عُومِلَ المزراحِيُّون ِمُعامَلة الصَّهاينة للعربِ الآخَرين، أيْ كَمُتوَحِّشين مُتخلِّفين. وفي سَّبعينيَّات القرن الماضي، كان المِزْراحِيُّون يُشكِّلون 50% من السُّكان اليهود الإسرائيليِّين. وعلى الرَّغم مِن أنَّ وَضعَهم كان أحسن مِن وضْع المُواطنين الفلسطينيِّين في إسرائيل، إلاَّ أنَّهُم ظلُّوا في أدنى دَرجات المجتمع اليهودي الإسرائيلي بِفعلِ الطبَقة الحاكِمة الأَشْكينازِيَّة وقد دُفِعوا إلى مُمارسة أسوأِ الوظائف والعيش في ظروف حياتية يَحكمُها الفَصْل العُنصري. ولا يزالُ هذا هو حالُهُم، اليوم.
إنَّ لدى "المِزْراحِيِّين" الكثيرُ لِيكْسبوه مِن النِّضال مِن أجل تحرير الفلسطينيِّين، الذين يتعرَّضون مِثلَهُم للاِضطهاد مِن قِبل نفْس الدَّولة ونفْس البُرجوازِيَّة الصُّهيونية. وَلكنَّ في سَعيِها للاِندماج في المجتمع الإسرائيلي، غالبًا ما تتبنَّى هذه الفِئة الاِجتماعيَّة المَواقِف الصُّهيونيَّة الأكثرَ تَطرُّفاً. وهذا التَّناقُض يقع في قلب مُشكلة الثَّورة في إسرائيل؛ إذْ أنَّ الفئات الأكثرَ رِجعِيَّة من الناحية الإيديولوجيَّة هي تلكَ التي لديْها أقوى الأسباب الماديَّة للثَّورة، في حين أنَّ الفئات الليبراليَّة، التي تتَّجِه إليها غالبيَّة اليسار، هي، في الواقِع، أكثرُ اِرتباطاً مادِيا باِلوضْع الرَّاهِن.
النِّظام العالَمي ما بعد الاِتِّحاد السُّوفييتي وهزيمة أوسْلو
كانت فترةُ ثمانينيَّاتِ القَرن الماضي فترةَ هزيمة وتَراجُع للنِّضال الفلسطيني؛ فقد اِنتهتْ حرب 1982 في لُبنان بِكارِثة على مُنظمة التَّحرير الفلسطينيَّة، وفي 1987 قُمِعت الاِنتفاضة الأولى في قطاع غزَّة والضِّفة الغربيَّة، بِوحشيَّة. وبِفعلِ هذه الهزائم العسكريَّة، وَجَدَتْ منظمة التَّحرير الفلسطينية نفسَها معزولةً على نحوٍ مُتزايِد في سياقٍ دُوليٍّ اِتَّسمَ بِتعاظُم العَداء الأمريكي واِنسِحاب السُّوفْييت. ومع اِنْهيار الاِتِّحاد السُّوفْييتي في 1991-1992، شهِد النِّظام العالمي تغيُّراً جَوهَرياً. وأدَّى ذلك إلى حُدوث تحوُّل اِيديولوجي في النِّضال الفلسطيني؛ إذْ أصبحتْ قِيادتُه أكثرُ تحفُّظًا وعُزوفًا عن القِتال وحِرصًا على التوصُّل إلى اتِفاقٍ بأيِّ ثَمن.
وفي مارس 1991، أعلن الرئيسُ الأمريكيُّ "جورْجْ بُوشْ" الأب أنَّ "الوقتَ قد حانَ لإِنهاء الصِّراع العربي الإسرائيلي" ونظَّم أوَّلَ مُفاوضات سلام بين إسرائيل وفلسطين بِمشاركة مصر وسوريا والأردن ولُبنان. واِستمرَّ خلَفُه "بيلْ كلينْتونْ" على نفسِ المِنوال، مقدِّماً نفسَه مُهندسَ السَّلام في الشَّرق الأوسط. وكانتْ هذه الاِدِّعاءات النَّبيلة للإمبرياليَّة الأمريكيَّة مِن أعْراضِ فترةٍ اِتَّسمَتْ بالهيمنة الأمريكيَّة واِنتِصار الليبراليَّة في الحرب البارِدة. وقد كان بِوُسع الولايات المتحدة أنْ تُبادِر بِمشاريعَ ضخمة مِن أجلِ "السَّلام على الأرض" كجُزءٍ مِن السَّلام الأمريكي. ولكنْ بالطبْع، كانت نُسختُها مِن السَّلام هي إدامةُ قهْرِ الشَّعب الفلسطيني وتثْبيتِ أمْنِ إسرائيل.
وتمخضَّتْ عن هذه المُبادَرة اِتفاقيَّاتُ أوسْلو التي أُبْرِمَتْ، في أوائل التِّسعينيَّات، بِرعاية الولايات المتحدة. ومثّلتْ هذه الاِتفاقيات اِستِسلامًا كبيرًا مِن جانب منظمة التَّحرير الفلسطينية؛ فقد اِعترفت المنظمة بالدَّولة الصُّهيونيَّة، مُتراجِعةً بذلك عن ميثاق منظمة التَّحرير الفلسطينية لعام 1968 الذي عرَّف فلسطين بِأنَّها "وِحدَة إقليميَّة غير قابِلة للتَّجزِئة“. وبِالإضافة إلى ذلك، قبِلتْ منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة بِبَقاء المُستوطَنات اليهوديَّة في الضِّفة الغربيَّة تحت السَّيطرة الإسرائيليَّة، ووافقَتْ على إنشاء السُّلطة الفلسطينيَّة التي سَتلعَب دورَ الشُّرطي نِيابةً عن إسرائيل في الضِّفة الغربيَّة وغزَّة، مِن خِلال حفْظ النِّظام في الأراضي الخاضِعة للسَّيطرة الفلسطينيَّة. وتحتَ ذَريعة اِستمرار المُفاوضات، مَنحَتْ هذه الاِتفاقيَّات إسرائيلَ السَّيطرة على مَوارد المياه، ونَصَّتْ على أنَّه لنْ يكون للسُّلطة الفلسطينيَّة أيُّ اِختصاصٍ في مَسائل السِّياسة أو الأمْن الخارِجييْن، ولا أيِّ سُلطة على الإسرائيليِّين في الأراضي الخاضِعة للإدارة الفلسطينيَّة. ونَصَّتْ اتِفاقياتُ أوسْلو على إِنشاءِ دولةٍ مُصغَّرة على شَكل بانْتوسْتانات، وهو وعدٌ سخيفٌ لم يتحقَّق، حتى الآن.
كان الهدفُ من اِتفاقات أوسْلو هو إجبارُ الفلسطينيين على السُّكوت وتجميدُ الصراع من خلال تقديم أمَل حلِّ الدولتيْن. لقد ِاِستفاد الصهاينة من اِستِسلام منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة لزيادة الضَّغط على الفلسطينيِّين عبْر تقليص أراضيهم تدريجيًا وشنِّ هجمات مُستمِرَّة على غزَّة والضِّفة الغربيَّة. وتُوِّجتْ هذه العملية بالتَّوقيع، في ظِلِّ إدارة "تْرامْبْ"، على اتِفاقات أبْراهامْ لعام 2020، والتي أرسَتْ أسُس تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل من خلال الاِعتراف بِسيادة هذه الأخيرة. وقد وعَدتْ هذه الاِتفاقيات، التي قُدِّمت على أنَّها اِنتصارٌ لإسرائيل، بأنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة ستُصبِح في أقاصي التَّاريخ.
غير أنَّ تضْييقَ الخِناق على الفلسطينيِّين بهذه الطريقة كان لا بُدَّ له أنْ يُثيرَ ردَّ فِعل. فقد دَفعتْ الخِيانة الواضِحة لمُنظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة إلى لُجوء المَزيدِ مِن الفلسطينيِّين إلى "حَماس" والقِوى الإسلاميَّة الأخرى التي اِقترَحتْ مُواجَهةَ إسرائيل بِراديكاليَّة أكبر. وقد أدىَّ ذلك إلى عَقْدٍ مِن المُواجَهات المُتقطِّعة بين إسرائيل وحماس بلغَتْ ذِروَتَها في الهجوم الواسِع على إسرائيل في عمليَّة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023. وتَسبَّبَ هذا الهُجوم وردُّ الفِعل الإسرائيلي الذي أعقبَه، والذي اِتَّسم بالإبادة الجَماعيَّة، في تحَطيم الوَضع الرَّاهِن في المنطقة ودَقِّ المِسمار الأخير في نعْش اتِفاقيَّات أوسْلو. ويتزامَنُ تَفاقُم حِدَّة هذا الصِّراع ووَحشِيَتِه مع تراجُع الهَيمنة الأمريكية التي كانتْ وراءَ المزيد مِن الأزمات في العالم. وفي هذا السِّياق الجديد يتوجَّبُ على الثُّوار أنْ يُفكِّروا في المَراحِل التَّالية لِلنِّضال مِن أجل تحرير فلسطين.
الآفاقُ الماركْسِيَّة اليوم
إذا كان هجوم حماس قد تسبَّب في زعْزَعة الوضع الرَّاهن في المِنطقة، فإنَّ الوضعَ السياسي الحالي في اليسار المارْكْسي لم يتحرَّك قيدَ أُنمُلة. ولا يزال يتَّسِم بالاِرتِباك والاِستِسلام؛ إذْ لم يَفْتأ الاِشتراكيُّون، مِن جميع الاِتِّجاهات، يتأرجَحُون بين قُطبَيْ الصُّهيونية والقوميَّة العربيَّة.
على اليمين، نجِدُ جماعات مِثل "لُوتْ أوفْرييرْ" في فرنسا و"لوتا كومُونيستا" في إيطاليا: وعلى الرَّغم مِن مُعارضة هذه الجماعات لِلقَصف الإسرائيلي على غزَّة، إلاَّ أنَّها تُدينُ النِّضال التَّحررُّي الفلسطيني باِعتباره قضيَّة وطنيَّة رِجعيَّة. وعلى مسافة أبْعد قليلًا إلى اليسار، ولكنْ، بشكلٍ عام، في نفس الفِئة، هنُاك مجموعة "اللَّجنة مِن أجل أمَمِيَّة عُماليَّة" ومجموعة "البَديل الاِشتِراكي الدُّولي"، اللَّتان تُخْفِيان رفْضَهُما للتَّحرُّر الوطني الفلسطيني تحت سِتار التَّضامُن اللِّيبرالي مع الحركة وهذا خلْفَ تَجْريداتٍ فارِغة مِثْل القول بأنَّ:
"ما يَتوجَّبُ هو وُجُود حركة عمَّالية أُمَمِيَّة جماهيريَّة لِمُواجَهة النَّزعة العسكريَّة والقوميَّة والطائفيَّة. إنَّ على هذه الحركة أنْ تُعارِض الطبقات الحاكِمة في جميع البلدان التي تستفيدُ من الحفاظ على الوضْع الرَّاهن، وأنْ تُوحِّد العُمَّال لِإسقاط جميع الأنظِمة الرِّجعيَّة على أساس برنامجٍ اِشتِراكيٍّ ثوري مِن أجل السَّلام والاِستقرار للجميع".
- دَعُونا نَضَع حدّاً، وإلى الأبَد، لِلمذبَحة في غزَّة "، موقع socialistalternative.org، 4 حزيران/يونيو 2024.
إنَّ مِن مِثل هذه التَّصريحات حول وَحدَة العُمَّال ضدَّ الرَّأسماليَّة تبَقى مُجرَّد كلامٍ فارغٍ ما لم تنطلِق مِن مَبدأ التَّحرُّر الوطني الفلسطيني. وما ينبغي فهمُه، هنا، هو أنَّ نقطة الاِنطلاق لتحقيق الوحدة بين العُمَّال في فلسطين وإسرائيل يجِب أنْ تتمَثَّل في رفضِ الصُّهيونية، وأنَّه لا يُمكِنُ تحقيق الثورة الاِشتراكيَّة إلاَّ بِوضْع التَّطلُعات الوطنيَّة للفلسطينيِّين في المَقام الأوَّل.
وفي الطرَف الآخَر مِن الطَّيْف هناك جماعات يساريَّة تُشيدُ، دونَ نَقدٍ، بِقيادة الحركة الفلسطينيَّة. إنَّ حزب الاِشتراكيَّة والتَّحرير في الولايات المُتحدة واضِح، تمامًا، في هذه النقطة: "فَدَورُ الحركة في الولايات المتحدة ليس اِنتقاد أيديولوجيَّة أو اِستراتيجيَّة حرَكة التحَّرير الفلسطينية، بل القِيامُ بِدورنا في دعْم نِضال الفلسطينيِّين لِكسْر نيرِ الاِستعمار، حتى يتمكَّنوا مِن أنْ يقُرِّروا بِأنفسِهم كيف يرغبُون في تنْظيم مُجتمعِهمِ" ("لماذا الحركة الفلسطينيَّة هي نضالٌ مِن أجل التَّحرُّر الوطني"، liberationnews.org، 3 مارس 2024). إنَّ معظمَ المجموعات، مِثل الحزب الاشتراكي للعمال البريطاني، ليستْ صريحةً، إلى هذا الحَد، في اِنتقادِ أساليبِ حَماس واِيديولوجِيتِها. لكنَّ هذه التَّحفُظات لا تهدِف، بأيِّ شكلٍ من الأشكال، إلى التَّساؤل حول سيطرة النَّزعة الوطنيَّة على النِّضال الفلسطيني.
إنَّ دوْرُ الشُّيوعيِّين، في نَظَر هذه الجماعات، ليْس تزويدُ الحركة بِقيادةٍ ثوريَّة بل هو العمَل كمُرشِدين للِّيبراليِّين والقوميِّين. وهنا يلتقي هذان التيَّاران. وبِغضِّ النَّظر عن موقفِها مِن فلسطين نفسِه، فإنَّ مُعظَم الجماعات الماركْسِيَّة تُهلِّل للحركة الاِحتجاجية بينما تتجنَّب، بِحذَر، الحديثَ عن حقيقة أنَّ اللِّيبراليِّين المُوالين للإمبرياليَّة هُم مَن يقودونَها، أو يَتملَّقونَ قادة هذه الحركة علنًا – مِثلَ "رشيدة طْليب" سِياسِيَّةُ الحزبِ الدِّيمُقراطي الأمريكي والنائب العُمَّالي وخادِم حِلْف النَّاتو "جونْ ماكْدونيلْ"، في بريطانيا.
إنَّ الوَسَطِيِّين مِن أمثال "ليفْتْ فُويْسْ "(صوتُ اليسار)، من الفصيل التْروتْسْكي ("ثورة دَّائمة" في فرنسا) هُمْ مَن يلعبون الدَّورَ الأكثر غَدرًا؛ فهُم لا يَجِدون صُعوبةً في تَحديدِ بعضِ المَسائل الأساسيَّة للحرَكة. وهكذا يكتبون في مَقالٍ عن الولايات المتحدة:
"منذُ الأيام الأولى للحرَكة، وَضعتْ جماعاتٌ مِثل الصَّوت اليهودي مِن أجل السلام وحزب الاِشتراكيَّة والتَّحرير وكذلك قادَة مُنظمات غير رِبْحيَّة الحرَكة في موقِع حمْلةِ ضَغط، وليْس في موقع حرَكة لِبناء القُوَّة المُستقلَّة للطبَقة العامِلة والمُضطَهَدين“.
- "الحركة الفلسطينيَّة بِحاجة إلى سياسات عُمَّاليَّة مُستقِلَّة"، leftvoice.org، 7 أبريل 2024
هذا صحيحٌ تمامًا. ولكن ما هي الاِستنتاجات العمَليَّة التي تَستخلِصُها مُنظمة "صوتُ اليسار" مِن هذا التَّحليل؟ هل تُركِّز مُداخلاتها، في الحركة المُؤيدة لفلسطين، على ضرورة الاِنفصال عن قيادتِها اللِّيبراليَّة المُوالِية للحزب الدِّيمقراطي؟ لا على الإطلاق. إذْ أنَّ مُعظَم نشاطِها ينْحصِر في دعواتٍ فارِغة إلى "حشْد ِالحركة" وتنظيم" "تحرُّكات مُوحَّدة في الشَّوارع“. وعندما تَتجادَلُ مجموعةُ "صوتُ اليسار" مع مجموعاتٍ مِثل حِزب الاِشتراكيَّة والتَّحرير، فإنَّها قادِرة على إظهار كيف أنَّها تستَسلم لِحماس وللحزب للشُّيوعي في الصِّين، وحتى اِنتقاد موقِفهِا الاِسترضائي اتِّجاهَ الحزب الدِّيمقراطي. ولكنْ ولا كلمة عن دَعمِها لـ "رشيدة طْليبْ"، الشَّخصيَّة القِيادِيَّة في الحزب الدَّيمقراطي التي تُكبِّل الحركة المُؤيِّدة للفلسطينيِّين بِحزبِ الإِبادة الجماعيَّة هذا. وفي الواقِع، تَتجنَّبُ مجموعةُ "صوتُ اليسار"، بِعناية، التَّنديدَ بِدورِ "رشيدة طْليبْ" الخائِن.
إنَّ كشْفَ الأقنِعة عن "رشيدة طْليبْ" في الولايات المتحدة و "جونْ ـ لوكْ ميلُونْشونْ" في فرنسا و"جونْ ماكْدونيلْ" في بريطانيا ليستْ مسألة ثانويَّة. وإذا كانتْ الحركة المُؤيدة لفلسطين جادَّة في إحداث قطيعة مع مَسارِها اللِّيبرالي، فإنَّ هذا النوع مِن الشَّخصيات "اليساريَّة" هو، باِلضَّبط، مَن يجِبُ كشفُه. إنَّ قولَنا "عليْنا أنْ نُعارِضَ الدِّيمقراطيِّين" شيءٌ، وقولَنا " يتوجَّبُ أنْ نُعارِضَ رشيدة طْليبْ" شيءٌ آخرٌ، تمامًا. والموقِف الأوَّل مقبولٌ لدى اللِّيبراليين الرَّاديكالِيِّين. أمَّا الثاني فإنَّه يُهاجِم أوهامَهُم، بِشكلٍ مُباشر.
إنَّ نوعَ وسَطيَّة "صوتُ اليسار" هو، بِالضَّبط، ما شجَبَهُ "لينينْ" في جدَلِه ضدَّ "كاوْتْسْكي". لقد كان هذا الأخير قادرًا على إدانةِ الحرب، بِشكلٍ عام، وحتى الجَناح اليميني في الدِّيمقراطيَّة ـ الاِجتماعيَّة، لكنَّه كان يَرفُضَ النِّضال من أجل الاِنْشقاق عنْ العناصر الاِجتماعيَّة ـ الشُّوفينيَّة في الحركة العُمَّاليَّة. وقد تَدعو مجموعةُ "صوتُ اليسار"، اليوم، إلى القطيعة مع الدِّيمقراطيِّين، بِصفَة عامَّة. ولكنَّها تَرفُضُ النِّضال مِن أجل الاِنشِقاق عن المُكوِّنات البُرجوازيَّة "اليسارِيَّة" في الحركة.
ومعَ هذا فإنَّ هذه هي المُهمَّة المركزيَّة للشُّيوعيِّين، وقد كانت المبدأَ المُوَجِّه لِتدخُّل الرَّابطة الشُّيُوعيَّة الدُّوليَّة في الحركة المُؤيِّدة لِفلسطين منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. لقد سعيْنا، في البُلدان التي تدخَّلْنا فيها، إلى إظهار الحاجة إلى قيادةٍ شُيوعيَّة مِن خِلال طرْحِ مَنظور مِن شأنِه أنْ يدفعَ بالحرَكة إلى الأمام، بِشكلٍ ملموس، مع إدانة قُيود وخِيانة قادتِها الحاليِّين. هذا هو الفرقُ بين الوسَطِيِّين الذين يُراقِبون المشكلة مِن أجلِ تجنُّبِها، وبيْن الثَّوريِّين الذين يُحدِّدون منظوراً قصْدَ إزالةِ العَقبات التي تَعتَرِض طريقَ النَّصر.
يدخُل النِّضال التَّحرُّري الفلسطيني فصْلًا جديدًا يضَعُ المارْكْسِيِّين، مرَّةً أخرى على المِحَك؛ ففي فلسطين، يَجِب على الثُّوريِّين أنْ يُشارِكوا، بِفعاليَّة، في النِّضال ضدَّ الهجوم الإسرائيلي ويُنظِّموه، بما في ذلك العمل الوحدَوي مع جماعات المُقاومة الفلسطينيَّة الأخرى. لكنْ عليهُم أنْ يَرفُضوا خلْطَ الرَّايات؛ بل على العَكس من ذلك، يجب أنْ يستغِلُّوا كل فُرصة لإِخضاع الاِستراتيجيَّة الإسلامَويَّة للنَّقد القاسي، واضِعين، دائمًا، في المَقام الأوَّل مَصالِحَ الحركة ككُل. وفي الوقت نفسِه، ينْبغي على الثُّوريِّين أنْ يعمَلوا، داخِل المُجتمع الإسرائيلي، وخاصَّة بين الطبَقة العامِلة والجيش، على إثارة كلِّ مَظاهِر الغَضب ضدَّ الحكومة الصُّهيونيَّة، وربْطِ ذلك بالقضيَّة الفلسطينيَّة وتَشجيع القطيعة مع كلِّ أشكال الصُّهيونيَّة.
وعلى الثَّوريِّين، في العالَم الإسلامي، أنْ يُحفِّزوا المَشاعر المُؤيِّدة لفلسطين على نِطاقٍ واسِع بين الجماهير الكادِحة، وأنْ يربِطوا بين هذه المشاعر وبين الاِضطهاد الإمبريالي لِلمنطقة بِأسرِها وأن يُوجِّهوا هذه المشاعر نحو النِّضال ضد الزُّمَر الفاسِدة في السُّلطة. إنَّ المُعارَضة غير المَشروطة للإمبرياليَّة ومُعارَضة ثابتة للقومِيِّين هُما شَرْطان مُسبَقان لِوحدة جميع العُمَّال والفلاَّحين، وخاصَّة أولئكَ الذين ينتمون إلى الأقليَّات القومية المُضطَهَدة التي يَسعى الإمبِرياليُّون إلى اِستِخدامِها للتَّفرِقة بِهدف فَرضِ سيادتِهم (مثل الأكْراد). وفي بُلدان الجنوب العالمي، لا تعني المُقاطعة والدَّعوات إلى الدبلوماسيَّة أي شيء؛ إنَّ على الثُّورِيِّين أنْ يُوجِّهوا النِّضال نحو إضعاف مَوقِف الإمبرياليَّة الأمريكيَّة التي تُعتَبَر القُوَّة الرئيسيَّة الواقِفة وراءَ إسرائيل والمُضْطَهِد الأساسي في هذه البلدان.
وفي الغرب، وكما سبَق ذِكرُهُ، يقْتَضي الحالُ مِن الثَّوريِّين أنْ يُناضِلوا مِن أجلِ الاِنْشِقاق عن القيادات اللِّيبراليَّة والإصلاحِيَّة للحركة. وعلى وجه الخُصوص، يَتوجَّبُ عليهم أنْ يُناضِلوا في الحركة العُمَّاليَّة لِكشف السياسة الاِجتماعيَّة الشُّوفينيَّة للقيادات النَّقابِيَّة مِن خلال إظهار كيف أنَّ دعمَها لِإسرائيل (العلَني أو الخَفِيِّ) يَسيرُ جنبًا إلى جنْب مع تَخريبِها لِأبْسطِ النِّضالات مِن أجلِ تَحسينِ معيشة العُمَّال.
وعلى جميع الجبَهات، في النِّضال مِن أجل النُّهوض بِقضية التَّحرُّر الفلسطيني، يُواجِه الثَّورِيُّون ضرورَة بناءِ مُعارَضة مُباشِرة لِأولئك الذين يقُودونَ حرَكة التَّحرُّر. إنَّ مائةَ عام مِن اِستِسلام الحركة المارْكْسِيَّة لِلصُّهيونيَّة أو للقوميَّة دفَع الفلسطينيُّون ثمنَها دمّاً، وأدَّتْ إلى خِيانات وهزائِمَ لا حصْرَ لها وحرَمتْهُم مِن حلٍّ بروليتاري لِاضطهادِهم الوطني. والمُهمَّة الماثِلة أمامَنا هي بِناءُ قيادةٍ شيوعيَّة للنِّضال الفلسطيني والنِّضال المُناهِض للإمبرياليَّة -- وهو العُنصُّر الأساسيُّ المَفقود مُنذ مائة عام.

