https://iclfi.org/pubs/icl-ar/2024-carnage
٤.تشرين الأول/أكتوبر ــ منذ ٧ تشرين الأول/أكتوبر (٢٠٢٣)، اِرتكبتْ الآلة الجهنميَّة الصُّهيونية مَجازِر بِحقِّ عشرات الآلاف مِن الفلسطينيين. ولم يتوقَّف هذا التَّصعيد الذي يُهدِّد، اليوم، بإشعال حربٍ إقليمية كبرى؛ ففي نيسان/أبريل الماضي، قصفتْ إسرائيل السِّفارة الإيرانيَّة في سوريا، وفي تموز/يوليو، اِغتالتْ زعيمَ حرَكة حَماس، «إسماعيل هنِيَّة»، في طهْران، وبَعدئِذٍ، اِنخرَطتْ إسرائيل في هجمة على حزب الله؛ ففجَّرتْ آلافاً مِن أجهِزة الـ «بيجَرْ» وقتلتْ قادَة الحزب - بِمنْ فيهم حسَن نَصر الله – كما شنَّتْ غارات على جنوب لبنان. وقد تظاهَر الملايين من الناس ضد جرائم إسرائيل، وفتحتْ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة تحقيقاً في هذه الجرائم، وبالمقابل، قَصفتْ إيران وحزبُ الله إسرائيلَ بالصواريخ. ومع ذلك، يبدو أنَّ لا شيء يَردَع إسرائيل عن مُواصَلة تصعيدِها.
ويُفسَّر هذا التَّصعيد، جُزئيًا، بِالهَدف الواضِح الذي حدَّدتْه حكومة «ناتنْياهو»، المُكوَّنة مِن جزَّارين ومُتعصِّبين، وهو المُتمَثِّل في التَّطهير العِرقي للفلسطينيِّين مِن النَّهر إلى البَحر. ويبدو أنَّ العَقبة التي تُواجِهُها إسرائيل تكمُنُ في أنَّ إيران قضَمَتْ، تدريجياً، وعلى مدى عُقود من الزمن، مِن هيمنة إسرائيل العسكريَّة في المنطقة، ممَّا جعلَها مُتآكِلة؛ إذْ لم تكتَفِ إيران بِتطوير أسلحة دقيقة، بل زادتْ مِن قُدرتِها على إنتاج أسلحة نوويَّة، كما اِستفادتْ، أيضاً، مِن الحروب الكارثيَّة التي شنَّتها الولايات المُتَّحدة، في المنطقة، لِتعزيز شَبكة مِن الميليشيات القويَّة. وقد اِعتُبِرتْ هذه التَّطوُّرات تَهديدات وُجوديَّة للمشروع الصُّهيوني الإسرائيلي.
واليوم، يرى اليمينُ الصهيوني الفُرصة تاريخيَّة لِتوجيه ضربَة مُدمِّرة لإيران؛ فالشعب الإسرائيلي مُنهمِك في حالة جُنون إبادة منذ ٧ تشرين الأول/أكتوبر؛ وسُمعَة إسرائيل الدُّوليَّة في الحَضيض، حقاً، بينما تَعِدُ الولاياتُ المُتَّحِدة إسرائيلَ بِدعمٍ غيرِ مَشروط. وفي هذا السِّياق، يعتقدُ نتنياهو أنَّه مِن خِلال التَّصعيد المُستمِر للصِّراع يُمكِنُه أنْ يَحصُلَ إمَّا على اِستسلامٍ كبير مِن إيران وحلفائِها، أو أنْ يَجُرَّ الولايات المتحدة إلى حربٍ مُباشِرة مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة. وفي كِلتا الحالتيْن، فإنَّه يَطمَح في ضمانِ التَّوسُّع داخلَ ما تبقى من الأراضي الفلسطينيَّة، دون مُعارضة، والدِّفاع عن حدودِ إسرائيل على المَدى الطويل.
ولكنْ يبقى السؤالُ مَطروحاً: «لماذا لا يستطيعُ أحدٌ وقفَ ناتنْياهو عن ذلك؟» في بعضِ الحالات، تكون الإجابة على السؤال بَديهِيَّة؛ وقد تَرى الولاياتُ المُتَّحدة أنَّ الحربَ ضدَّ إيران غير مَرغوبٍ فيها، في الوقت الرَّاهِن، ولكن هذا أمرٌ ثانوي تمامًا بالنسبة لاِلتزامِها بالدفاع عن إسرائيل في كل الظروف. وحتى لو لم يكُنْ « جُو بايْدنْ» خَرِفًا، فإنَّ عدَم وُجودِ تصميمٍ سياسيٍّ لِوقف العُدوان الإسرائيلي سيبقى قائمًا. أمَّا حكومات بريطانيا وألمانيا وفرنسا واليابان وغيرِها من «الدِّيمقراطيَّات» المُتقدِّمة، فهي حكوماتٌ عميلة مُصمِّمة على الدفاع عن النِّظام العالمي الأمريكي حتى لو أدَّى ذلك إلى تدميرِ اِقتِصاداتِها. ولنْ تُبالي هذه الحكومات بِهذا المَصير كثيراً.
وماذا عن القوى التي تُعارِض إسرائيل، مِثل إيران؟ أو ماذا عن ملايين الأشخاص الذين يَتظاهَرون ضد الإبادة الجماعيَّة في غزَّة؟ لماذا لم يتمَكَّنوا مِن وقْفِ دوَّامة سَفكِ الدِّماء في غرب آسيا؟ علينا، هُنا، أنْ نَنظُرَ ليس فقط إلى مَوازين القِوى العسكريَّة ولكنْ، أيضاً، إلى وُجُهات النَّظر السياسيَّة لِمختلف مُعارضي «ناتنْياهو». وكما سَنَرى، فإنَّ السَّبب الحقيقي وراءَ عدَم إيقافِ حكومَتِه هو أنَّ مُعارِضيه لا يمْلُكون برنامجًا جريئًا ومتماسكًا لِهزيمة الصُّهيونيَّة والتَّخلُّص مِن الهيْمنة الإمبرياليَّة على المنطقة.
خيار آية الله: الاِستِسلام أو الجِهاد؟
بدايةً، عليْنا أنْ نَنظُر إلى مِحور المُقاومة الذي تقُودُه إيران، والذي يضُمُّ حزبَ الله والحوثيِّينَ في اليَمن. وعلى عكسِ مُعظم الأنظِمة الإسلاميَّة الأخرى، التي تُدينُ إسرائيل في الخطاب بينما تبقى مُتحالِفة مع الولايات المتحدة، في المُمارَسة العمليَّة، يُواجِه النِّظام الإيراني وحُلفاؤُه إسرائيل، بشكلٍ مُباشِر، بِما في ذلك بِإطلاق الصواريخ على أراضيها. ومع ذلك، فإنَّ مَظاهِر القُوَّة، مِثل تلك التي بَدتْ في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، لا تدُلُّ على أنَّ مِحورَ المُقاومة مُصمِّم على القتال من أجل تحرير فلسطين، ولا على أنَّ لديْه أيَّ خُطة مُتماسِكة لِهزيمةِ إسرائيل أو، وهُو الأهَم، إلْحاق الهزيمة بالولايات المُتَّحدة. وفي الواقع، فإن العكسُ هو الصَّحيح.
إنَّ الأوْلوِيَّة القُصوى للقِيادة الإيرانيَّة هي الحفاظُ على النِّظام الدِّيني الشِّيعي؛ فمنذُ تأسيسِه بعد الإطاحة بالشَّاه، الذي كان دُميَة في يَد الولايات المُتَّحدة، كان النظامُ في صِراعٍ دائمٍ مع المَصالِح الإمبرياليَّة في المنطقة. وفي الوقت نفسِه، تَحُدُّ الطبيعةُ الثْيوقْراطِيَّة والرأسماليَّة للنظام مِن قُدرة إيران على صدِّ الإمبرياليَّة وهزيمتِها من خلال تَوحيد شُعوب غرب آسيا في كفاح مُشتَرَك.
تبدأُ مشاكل النِّظام مِن الإيرانيِّين أنفسَهُم: فالكثيرُ مِنهم يكْرهون العيشَ تحت قبْضَة الشَّريعة الإسلاميَّة والمَلالي. والنِّساء، على وَجه الخُصوص، مَحرومات مِن أبْسط الحقوق الديمقراطيَّة، بما في ذلك الحقُّ في تقريرِ ما يَرْتَدينَه. كما أنَّ إيران مَوطِنٌ قومِياتٍ وطوائف دينيّة مُتنوعة تُعاني من القمع والحرمان مِن حقوقها الوطنيَّة. وقد برزَتْ هذه التَّوتُّرات الداخليَّة إلى الواجِهة في عام ٢٠٢٢، خلال الاِنفجار الاِجتماعي الذي أعقَب وفاةَ «جينا أميني»، في الحَجز.
ويَعني هذا الوضع الدَّاخلي المُتوتِّر أنَّه في حالة أيَّ تهديدٍ مِن الإمبرياليِّين ومن إسرائيل يتوجب المُوازَنَة بين هذا التَّهديد وبيْن اِستقرارِ الجبْهة الداخليَّة، وهو ما يبدو، مِن نَواحٍ كثيرة، أكثرَ خُطورة في نَظَر رِجال الدِّين الحاكِمين. ويُفسِّر هذا الأمْر لماذا سمَح آية الله «علي خامِنْئي» لـِ «مَسعود بيزِشْكِيانْ» باِلتَّرشُّح في الاِنتخابات الرئاسيَّة والفوزِ بها في خِضَمِّ الإبادة الإسرائيليَّة في غزَّة على أساسِ برنامَج يَسْترْضي الغرب. ولم يكُن هذا اِنعطافًا بل نتيجة منطقيَّة لِعقيدةِ «الصَّبْر الاِستراتيجي» المُعلَنة إزاء إسرائيل. ويعتقِد الجناحُ الإصلاحيُّ في النِّظام أنَّه إذا تمكَّن مِن تجنُّب المُواجَهة المُباشِرة مع إسرائيل والحُصول على تَنازُلات اِقتصادية مِن الغرب، فإنَّه سيتمَكَّن مِن الحدِّ مِن التوترات الداخليَّة وضَمانِ اِستِقرار النِّظام.
ومن جِهتِهِم، يُدرِك الإصلاحيُّون أنَّ الثَّمن الذي سيَدفعونه مُقابل هذه التنازلات هو طعْنُ الفلسطينيِّين وحُلفائِهم الآخرين في الظَّهر؛ ففي نهاية شهر سبتمبر/أيلول، وبينما كانت إسرائيل مُنْشغِلة بِضربِ رأسِ حزب الله، الحليف الرَّئيسي لإيران في المنطقة، كان الرئيسُ « بيزِشْكِيانْ « في نيويورك، يَدعو إلى العودة إلى التَّفاوُض حولَ الاِتفاق النَّووي لعام ٢٠١٥. وقد سوَّغَ أحدُ أعضاءِ النِّظام التَّقاعُسَ الصَّادِم في مُواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان على النحو التالي الذي نقلتْهُ صحيفة «فاينانْشْيالْ تايْمَزْ» (٢٦ سبتمبر/أيلول): «لا مَفرُ مِن وضْعِ بعض القضايا المُهمَّة جانبًا لِصالح قضايا أكثر إلْحاحًا، على الأقل، مؤقتًا. وهذا هو الثَّمن الذي يُدفَع عند تَعديل النَّهج أثناءَ المعركة.»
هناك، بِالطَّبع، جناحٌ آخرٌ من الطبقة الحاكِمة، ويتمَثَّلُ في «أنصار الخَط المُتشدِّد»، الذين يريدون فَرضَ نظامٍ ديني أكثَر قساوة داخل البلاد واِتِّباع سياسةٍ أكثرَ صِراعِيَّة تِجاه إسرائيل. ومن المُمكن أنْ تَخرُج إيران مُنتصرة في حرب اِستنزاف طويلة مع إسرائيل والولايات المتحدة. ولكن الثَّمن سيكون باهظًا وسيَكون النظامُ في مُواجهة مَخاطِر كبيرة.
وبِطبيعة الحال، فإنَّ أمريكا وإسرائيل قويَّتان جداً عسكرياً. لكنَّ الطابَع الدّْيني سيُعيقُ جهودَ إيران الحربيَّة، أيضاً؛ فبِالنَّظَر إلى طبيعة الجمهوريَّة الإسلاميَّة، فإنَّ أيَّ حربٍ ستستنِدُ، إلى حد كبير، على الطائِفة الشِّيعيَّة. وعلى هذا الأساس فإنَّه مِن المُستحيلِ توحيدُ شعوبِ المنطقة كُلَّها ضدَّ الإمبرياليَّة والصُّهيونيَّة؛ فِمِثلِ هذه الحرب ستكونُ رادِعة لِمُعظَم دُوَل غرب آسيا وستَسمَح للعدوِّ - والأنظمة السُّنيَّة المُعادِيَّة للشِّيعة - بإثارةِ النِزاعات الدينيَّة والقوميَّة بين مُختلف الفئات المُضطَهَدة. وهذا هو الاِعتِبار الذي يَجعل الحربَ مع إسرائيل أكثرَ كلُفة بِكثير ونتيجتُها أكثرَ غموضًا بالنسبة لرجال الدِّين في السُّلطة.
ولُبنان مثالٌ جيِّد على ذلك؛ فقد تَعَمّد المُستعمِرون الفرنسيُّون بناءَ لُبنان على أسُس طائفيَّة مِن أجلِ تأْليبِ المجموعات الدينيَّة المُختلفة ضد بَعضها البَعض والحِفاظِ على هيَمنتِهِم. ولكنْ بدلًا مِن التَّغلب على هذه الاِنقسامات والعمل على توحيد السُّنة والشِّيعة والمَسيحيِّين ضد الإمبرياليَّة وإسرائيل، ركَّزتْ إيران جهودَها على بِناءِ «حزبِ الله»، وهي ميليشيا قائمة على الطائفة الشِّيعيَّة. وهذا يعني أنه يجب على «حزب الله»، في أي صراع مع إسرائيل، ليس فقط مُواجَهة العَدُو الخارجي، بل أيضًا، عليه موازنة علاقاتِه مع الجماعات الدينيَّة الأخرى في لبنان بذلك. ومِن المُؤكد أنَّ هذا الاِعتِبار هو عامِل مُهِمٌّ في ضبْط النَّفس الذي يُمارسه «حزب الله» منذ ٧ تشرين الأول/أكتوبر.
ومِن الواضِح أنَّه لا «حزبُ الله» ولا إيران وَاثِقَيْن في قُدرتِهِما على مُواجَهة إسرائيل في هذا الوقت. وقد اِستغلَّ «ناتنْياهو»، تردُّد وتذبْذُب خصومِه، في الأسابيع الأخيرة، بِشكلٍ مُدَمِّر؛ إذْ نجحتْ إسرائيل في ضَرْب رأسِ قيادة «حزب الله» وأثبتَتْ أنَّ إيران ليستْ حليفًا موثوقًا به. وفي مُواجَهة الإذلال، ردَّ النظام الإيراني، أخيرًا، بِإطلاق وابِلٍ من ١٨٠ صاروخًا باليستيًا على إسرائيل. وقد عادَتْ زِمام المبادرة، الآن، إلى يَد إسرائيل، التي ستُقرِّر ما إذا كانتْ ترغَب في مُواصَلة تَصعيد الصِّراع.
يجِبُ أنْ نَضَع في اِعتبارِنا أنَّه ليس مِن المؤكد، بأيِّ حال من الأحوال، أنَّ تعزِّزَ حربٌ شامِلة، في الشرق الأوسط، مَوقِف الولايات المُتَّحدة وإسرائيل - بل العَكس هو المُرجَّح. ومع ذلك، علينا ألاَّ نَعتمِدَ على مِحور المقاومة من أجل النهوض بتحرير فلسطين وتحرُّر الطبقة العاملة. إنَّ ما نحتاجُه، بدَلًا من ذلك، هو برنامجٌ لا يقبَل المُساوَمة في مُعارَضتِه للإمبرياليَّة ويُمكِنُه توحيدَ شُعوب الشَّرق الأوسط. ويَجب أنْ تقومَ ركائزُ هذا البرنامج ما يلي:
-
الدِّفاع عن غزَّة، والضِّفة الغربيَّة، واليَمن، ولبنان، وعن إيران ضدَّ الهَجمات الصُّهيونِيَّة والإمبرياليَّة!
-
تحريرُ الوطَن الفلسطيني والاِعتِراف التَّام باِلحقوق الوطنيَّة بما في ذلك تقريرِ المَصير لِكُلِّ الأُمَم!
-
لا دينٌ للدَّولة، و لا فَرضٌ للحِجاب!
-
تأميمُ مُمتَلكات الإمبرياليِّين وأعوانِهم المَحَليِّين !
الصُّهيونيَّة الليبراليَّة: رِجعِيَّة وعاجِزة
حتَّى لو اِعتَبَرَ مُنظِّرو مِحورِ المقاومة رغباتَهِم بِمَثابَة حقائق، فإنَّ إسرائيل ليستْ نِمرًا مِن ورَق؛ فهي لنْ تنهارْ إذا ما فُضِحَتْ روايتُها للأشياء أو إذا ما تَعرَّضتْ لِضربات اِقتصاديَّة قاسِية. إنَّ ركيزتيْ قوَّة إسرائيل هُما الدَّعم الذي تَتلقَّاه مِن الولايات المُتَّحدة ووُجودُ أمَّة يَهوديَّة مُوحَّدة على أرض فلسطين. وهذا يعني أنَّه حتى لو كان مِن المُمكن إلْحاقُ هزيمةٍ عسكريَّة كارِثِيَّة بإسرائيل مِن شَأنِها أنْ تَجعلَ وُجودَها ذاتَه مَوضِعَ تَساؤُل، فلا شكَّ أنَّ الصَّهايِنة سيكونون قادِرين على إلْحاقِ دمارٍ كارِثيٍّ بِإعدائِهم وأنَّ جزءاً كبيراً مِن الشَّعب الإسرائيلي سيُقاتِل حتى النِّهاية المَريرة مِن أجل وُجودِه القومي. إنَّ المُواجَهة العسكريَّة مع الأمَّة الإسرائيليَّة بِأكملها تَتضمَّنُ أقصى درَجاتِ المُقاوَمة والدَّمار. ولِهذا السَّبَب، فإذا كُنَّا جادِين في تحرير فلسطين، فإنَّه يجِبُ أنْ تكونَ لدينا اِستراتيجيَّة تهدِف إلى تقْويضِ الوحدة الوطنيَّة الإسرائيليَّة وفصْلِ جًزءٍ كبيرٍ من السُّكان عن الصُّهيونِيَّة.
لقد أظهرتْ السَّنوات الأخيرة أنَّ هُناك، بالفعل، تَصدُّعاتٌ كبيرة داخِل إسرائيل. وتعكِسُ هذه التَّوتُّرات الداخليَّة اِنزلاقَ البِلاد الذي لا يَرحَم نحوَ نظامٍ ثِيوقْراطيٍّ عسكريٍّ شُموليٍّ حتَّى بالنسبة لليَهود. كما يُبيِّنُ هذا المَسار أنَّ المجتمع القائم على القمع القومي لا يَحُطّ، فَحسْب، مِن شأْنِ المَظلومين ــ وهُم، في هذه الحالة، الفلسطينيون ــ بلْ يَجُرّ، أيضاً، الأمَّة المُضطَهِدَة إلى الهَمجِيَّة.
لقد كانت المُظاهرات الحاشِدة، في عام ٢٠٢٣ ضد إصلاحات «ناتنْياهو» القضائيَّة غير الدِّيمُقراطيَّة، والمُظاهَرات الأخيرة التي طالبَتْ بِوقف إطلاق النار لِتحرير الأسرى في غزَّة حركات تستنِد على الجَناح الليبرالي للطبَقة الحاكِمة الصُّهيونِيَّة. ويُعارِض هذا القُطب من المجتمع الإسرائيلي الجوانِبَ الأكثرَ عُدوانية وثِيوقْراطيَّة في سياسة الحكومة، بينما هو مُلتزِم، تمامًا، بِالصُّهيونيَّة، أي بِالقمع القومي للفلسطينيِّين. وهو ما يُعطي للصُّهيونيَّة الليبرالية طابَعًا رِجْعيًا. ويعني، أيضًا، أنَّها عاجِزة تمامًا عن مُواجَهة الجناح اليميني في المجتمع الإسرائيلي.
إن منطقَ الصهيونيَّة هو أنَّ الجزءَ مِن الطبقة الحاكِمة الأكثر غضَبًا والأكثرُ سعيًا للمُواجَهة سيكون، دائمًا، أكثرُ اِتِّساقًا مِن أولئك الذين يتَدثَّرونَ بِالمُثُل العُليا بينما يُواصِلون الدِّفاعَ عن الجريمة التاريخية المُتمثِّلة في تَشريد الفلسطينيِّين. ويتجَلى إفلاسُ الحركات الصُّهيونية الليبراليَّة، بِوضوح، مِن خلال حقيقة أنَّها تَتبَخَّر بِمُجرد إثارةِ مَسألة الدِّفاع الوطني الإسرائيلي بِقليلٍ مِن الجِدِّية؛ فبَعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، سارَع بعضُ أشَدِّ مُعارِضي «ناتنْياهو» إلى الاِنضِمام إلى حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها. وفي أعقاب الهَجمات الإسرائيلية على لبنان، ظهَر التَّراجُع، فَورِياً، على الحرَكة مِن أجل إطلاق سَراح الرَّهائن. والحقيقة هي أنَّه لا يُمكِن أن تَقومَ مُعارَضة جِديَّة أمامَ جماعة «ناتنْياهو» المُتعَصِّبَة دونَ إحداثِ قَطيعةٍ سياسيَّة مع الصُّهيونيَّة والدِّفاع عن تَحرير فلسطين.
فِعلاً، هُناك قِوى صغيرة في إسرائيل تُعارِض اِضطِهادَ الفلسطينيِّين. وعلى الرَّغم مِن أنَّها تَتعرَّض إلى قمعٍ شديد، إلا أنَّها لا تُواجِه العقَبة التي تُمثِّلُها الصُّهيونيَّة الليبراليَّة. وفي حالة جماعات مِثل «الرَّابِطة الاِشتراكيَّة الأمَمِيَّة» (المُنْضَوِية تحتَ رايَة «التَّيار الشُّيوعي الثَّوري الدُّولي») يَسودُ الاِعتقاد بأنَّه لا يُمكِن فِعلُ أيِّ شيءٍ، تقريبًا، لِحَمل الطبقة العامِلة الإسرائيليَّة على الاِنفِصال عن الصُّهيونِيَّة لأنَّ إسرائيل دولةٌ اِستيطانيَّة اِستِعماريَّة. وبِالنسبة لهُم، فإنَّ المَطلوبَ، بِبَساطة، هي إظهارُ التَّضامُن الليبرالي مع الفلسطينيِّين دون السَّعي للتَّأثيرِ على المُجتمع الإسرائيلي. ثم هُناكَ مُنظمات مِثل «النِّضال الاِشتِراكي» (التَّابِعة لـِ «البَديل الاِشتراكي الدُّولي»)، التي تُشيدُ بِالحرَكات الصُّهيونيَّة الليبراليَّة؛ فَعلى سبيل المِثال، رحَّبتْ هذه المُنظمات بالإضراب العام الذي اِستمرَ يوماً واحِداً، في بداية شهر أيلول/سبتمبر، دونَ إظهارِ أيِّ مُعارَضة للصُّهيونيَّة، ودُون الإشارةِ إلى أنَّ الإضرابَ نظمَتْهُ بيروقراطية نقابية مُلتزِمة، كُليَّة، بِالقمع القومي للفلسطينيِّين. وفي كلْتا الحالتيْن، هُناك رفضٌ أو عجْزٌ عن مُواجهة المُعتقدات الصُّهيونيَّة المُتجَذِّرة لدى العُمَّال.
ولِتفْكيك تكتُّل المُجتمع الإسرائيلي، فإنَّه مِن الضروري النَّظرُ إلى ما وراء الأفكار التي في رؤوس النَّاس وفحْصُ المَصالِح الماديَّة للطَّبقات المُختلِفة؛ إذْ بينما تتمتَّع إسرائيل بِمستوى مَعيشي أعلى بِسبب دورِها كَذِراعٍ قويٍّ للإمبرياليَّة في المنطقة، فإنَّ الظروفَ المَعيشيةَّ للعُمَّال الإسرائيليِّين - بِمَن فيهم العُمَّال اليَهود - ليْست جيِّدة. إنَّ اِضطهادَ الفلسطينيِّين لا يعودُ بالنَّفع على العُمَّال اليَهود؛ إذ يَجرُّهُم هذا الأمْر إلى الدَّرَك الأسفل مِن خِلال جَعلِهم عاجِزين عن الدِّفاع عن مَصالِحهم ضد أرْبابِ العمل والبُرجوازيَّة الوطنيَّة. كما أنَّه يُحوِّلُهم إلى عُملاء للقمْع الهَمجي للفلسطينيِّين، مِما يُعرِّض حياتَهم وحياةَ عائلاتِهم للخَطر ويُقلِّل مِن إنسانِيتِهِم.
إنَّ مِفتاح فكِّ هذه التَّناقُضات هو تقْويضُ الصُّهيونيَّة بِبرنامجٍ مُوجَّه ضِد جَناحِها اليَميني وجناحِها الليبرالي على حدٍ سَواء.
الحقوق الدِّيمقراطيَّة الكامِلة للفلسطينيِّين مِن النَّهر إلى البَحرــ ولنْ يكونَ العُمَّال الإسرائيليون أحراراً، مُطلَقا، طالَما بَقِيَ الفلسطينيُّون مُضطَهَدين!
-
فكُّ الاِرتِباط بالولايات المُتَّحدة، لأنَّ العملَ كَوُكَلاء للإمبرياليَّة لنْ يُوفِّرَ الأمْنَ، أبدًا!
-
إعادةُ تَوزيع الأرْض والثَّرْوة الرأسماليَّة على العُمَّال والفلسطينيِّين!
هارا كِيري لِـ هاريسْ»»
لِوقْف الهُجوم الإسرائيلي، مِن الضَّروري وقفُ تدفُّق الأسلحة مِن الغرب، وخاصَّة مِن الولايات المُتَّحدة. وعلى مَدار العام الماضي كان هُناك عددٌ لا يُحصى مِن المُظاهرات المُؤيِّدة للفلسطينيِّين وحتى حرَكة طُلابِيَّة قصيرة الأجَل ولكنَّها نِضاليَّة ضد الإبادة الجماعيَّة في غزَّة. ولكنْ، في الأسابيع الأخيرة، خَفَتَتْ الحرَكة في الولايات المُتَّحدة، إلى حدٍ كبير، حتى لا تُضُرَّ بالآفاقِ الاِنْتِخابيَّة لِلمُرشَّحة الرِّئاسيَّة «كَمالا هاريسْ»، المعروفة باِلتزامها العميق بالدِّفاع عن إسرائيل.
وليسَ، ثمَّةَ، ما يُوضِّح المأزقَ الحالي أفْضلَ مِن حرَكة «غيْر المُلتَزِمِين» البَئيسة؛ فَقبْل بِضعة أشهُر، شجَّعتْ هذه الحرَكة النَّاخِبين في الاِنتخابات التَّمهيديَّة للحزب الدِّيمقراطي على وضْعِ علامَة «غيرُ مُلتَزِم» على أوراق اِقتراعِهم كتَكْتيكٍ للضَّغط على قيادة الحزب. وعلى الرَّغم مِن أنَّ الآلافَ مِن النَّاس اتَّبَعوا دعوةَ الحرَكة، إلاَّ أنَّها لم تُحقِّق شيئًا كما كانَ مُتوَقَّعاً، بلْ إنَّ الدِّيمقراطيِّين ألْقوا بها في الحَضيض؛ إذ أنَّهم رفَضوا مَطلبَ الحرَكة المُثيرِ للشَّفقة بالسَّماح ولو لِمُتحدِّثٍ فلسطيني واحِد – أياًّ كان - بإلقاءِ كَلمة في مُؤتمر الحزب الدِّيمقراطي في مدينة «شيكاغو». والآن، وبعدَ أسابيعٍ مِن التَّذلُّل، دونَ جدوى، وعلى الرغم من الجهود التي بذلتْها، رَفضَتْ «الحرَكة غيرُ المُلتَزِمة» تأييدَ «هاريسْ»، ودعَتْ، بدلًا مِن ذلك، إلى التَّصويتِ ضدَّ المُرشَّح «دونالْدْ تْرامْبْ»... ولكنْ ليْس لِصالِح طرفٍ ثالِث – وهو ما يعني، في النِّهاية، التصويتَ لِصالِح «هاريسْ».
إنَّ هذا المَشهَد المُؤسِف الذي صفَّقَتْ له غالبِيةُ اليَسار، في كل خُطوة من خطواته، يقطَع شَوطًا طويلًا في تفسير سبَب عدَم فعاليَّة الحرَكة المُؤيِّدة للفلسطينيِّين في الغرب في اِنتزاعِ أدنى تنازُلٍ، ناهيكَ عن التَّوَصُّل إلى وقْفِ شُحنات الأسلحة؛ فبَدلًا مِن بناءِ مُعارضةٍ مِن الطبقة العامِلة في مُواجهة حِزبَيْ الإمبرياليَّة الأمريكيَّة، اللذين يُنازِعُ كُلٌّ مِنهُما الآخرَ لِيبْدو أكثرَ صُهيونِيَّةً مِنه، سَعتْ الحرَكة إلى جذْب الحزب الدِّيمقراطي إلى جانِب فلسطين. وتتجلَّى عبَثِيَّةُ هذه الاِستراتيجيَّة في حقيقة أنه حتى عُضو الكونغرِس الأمريكي مِن أصلٍ فلسطيني «رشيدة طْليْب»، التي أثارَتْ غَضبَ وسائلِ الإعلام والمؤسَّسة الأمريكيَّة بِأسرِها، بَقيَتْ في الحزب الدِّيمقراطي رغمَ دعمِه للإبادة الجماعيَّة. وهذا يدُلُّ على أنَّ الحرَكة الداعِمة للفلسطينيِّين ليستْ هي مَن أثَّرَتْ في الحزب الدِّيمقراطي، بل إنَّ الحرَكة ضَحَّتْ بِنفسِها مِن أجْل الدِّيمقراطيِّين.
ومِن جِهة ثانية، أضرَبَ عشراتُ الآلاف مِن عُمَّال الحديد في شرِكة « بْوينْغْ» وعُمَّال الموانئ المُنتَمين إلى نَقابة عُمال الموانئ الأمريكيِّين. وحتَّى وإنْ اِستمَرتْ نَقابة عُمَّال الموانئ، بِشكلٍ إجراميٍّ، في شحْن الأسلِحة إلاَّ أنَّ الإضرابات تسبَّبتْ، بالتَّأكيد، في تعطيلِ شرِكات تَصْنيعِ الأسلحة الأمريكية وأثّرَتْ أكثرَ مِن جميع الإضرابات التي شهدتْها الجامِعات مُجتَمِعة. وتكمُنُ المُشكلة في أنَّ الحرَكة المُؤيدة لِفلسطين عاجِزة، تمامًا، عن التَّواصُل مع هؤلاء العُمَّال، الذين يكرَهُ الكثيرُ مِنهم المُؤسَّسة الليبراليَّة حتى العَظْم ويُفضِّلون التَّصويتَ لـِ «ترامْبْ». وفي أحسَن الأحوال، يقوم الناشِطون الليبراليُّون بإلقاء مُحاضرات أمامَ العُمَّال حول السَّبَب الذي يدعوهُم إلى دعْم فلسطين؛ وفي أسوأِها، يُعامِلون العُمَّال المُحافِظين بِاِزدِراء ويَعتَبِرونَهم «جُزءًا مِن المُشكلة».
إنَّ ما يَفشَل الليبراليُّون في فَهمِه هو الحقيقة الأساسيَّة وهي أنَّه ليس مِن مَصلحة العُمَّال الأمريكيِّين إرسالَ الصواريخ التي تُسبِّبُ المَوت والفوضى في أنحاءِ العالَم؛ فأبناءُ العُمَّال الأمريكيِّين هُم أوَّلُ مَن سيتِمُّ إرسالهُم لِلاِقتِتال والموت مِن أجلِ أرباحِ الإمبرياليَّة الأمريكيَّة. ويُدرِكُ الكثيرُ مِن العُمَّال، بِشكلٍ غَريزي، أنَّ انعدامَ الأمنِ وعدَمَ الاِستِقرار المُتزايِديْن اللذيْن يُلاقونَهُما، في حياتِهم اليوميَّة، له علاقة كبيرة بالحُروب الأمريكيَّة المُتواصِلة. وبدلًا مِن التَّمَلُّق لِنفْس الحِزب الذي يرتكِب الإبادة الجماعية ويُكسِّر الإضرابات وعِوَضَ السَّعي إلى ترويج الهُراء الليبرالي بيْن الطبَقة العامِلة، يَجِبُ على الحرَكة المُؤيِّدة لفلسطين أنْ تَجتَهِد في رَبْط القضيَّة الفلسطينيَّة بِقضيَّة تَحرُّر الطبَقة العامِلة في الولايات المُتَّحدة نفسِها.
وقْفُ شَحنِ الأسلحة المُوجَّهة إلى إسرائيل! فالجَرائِم الأمريكيَّة في الخارج تُرتَكَبُ على حِساب العُمَّال الأمريكيِّين!
-
مِن أجْلِ تحرير السُّود، ومِن أجْلِ تَحرير الفلسطينيِّين!
-
عارِضوا الدِّيمقراطيِّين والجُمهوريِّين صَوِّتوا لِحزبٍ عُمَّاليٍّ (حزب الاِشتراكيَّة والحُريَّة)!
أيْنَ هي دُوَل البْريكْسْ؟
إنَّ التَّحالف الفعَّال هو الذي يكون فيه الكُلُّ أقوى مِن أيِّ جزءٍ في هذا المَجموع على حِدَة. أمَّا تكتُّل بْريكْسْ+ فهُوَ عكسُ ذلك تماماً. وعندما يتعلَّق الأمرُ بِفلسطين، أو بِأيِّ صراعٍ جِيوسِياسيٍّ كبير آخَر، يُصبِحُ هذا التَّكتُّل مَشلولاً، تمامًا. وتَكمُن المُشكلة في أنَّ كلَّ دولة مِن الدُّول الأعضاء لديْها مَصالِحٌ مُختلفة جداً ومُتناقِضة في كثير مِن الأحيان؛ ففي قضيَّة الحرب على غزَّة، على سَبيل المِثال، هناك دولةٌ واحدة عُضو، وهي إيران، في حالة صِراع مُباشِر مع إسرائيل. ثم هناك الهِند التي تربِطُها علاقاتٌ وثيقة مع إسرائيل ويقودها حزبٌ شوفينيٌّ مُعادٍ للمُسلمين. ومِن الواضِح أنَّه عندما يتعلَّق الأمرُ بِفلسطين، فإنَّ مجموعة بريكس+ كَكُتلة لنْ تلعبَ دورًا مُستِقلًا.
وماذا عن الدُّول الكبرى الأخرى التي تُشكِّل هذه الكُتلة، مِثل روسيا والصِّين؟ لقد زوَّدتْ روسيا إيرانَ بِبعض الدَّعم العسكري، بما في ذلك بَطارِيات الدِّفاع الجوي. ومع ذلك، يبدو أنَّ روسيا مُهتَمة بِتجنُّب التَّصعيد الإقليمي أكثرَ مِن اِهتِمامِها بِتعزيز قضية تحرير فلسطين. وفي نهاية المَطاف، وعلى الرَّغم مِن الصَّخب حول الإمبرياليَّة الرُّوسيَّة، فإنَّه لا يُوجد ما يُشير إلى أنَّ روسيا تُحاوِل الاِستفادة مِن الوَضع لإبْعادِ النُّفوذ الأمريكي من المنطقة. بل على العكْسِ مِن ذلك، تُركِّز روسيا على إنهاء الحرب في أوكرانيا والتَّوصُّل إلى اِتفاقٍ مع الولايات المُتحدة بِشأن البِنْية الأمْنيَّة المُستقبليَّة لأوروبا.
وماذا عن الصين؟ لا شكَّ أنَّ النِّظام الذي يدّعي الشُّيوعيَّة لنْ يَتوانى عن تقديم الدَّعم المادي للمُقاومة الفلسطينيَّة، كما فَعل الاِتحاد السُّوفييتي مع منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة. هاها! وبِصرْف النَّظر عن الإيماءات الفارِغة والتَّفاهات السِّلميَّة، لم يُحرِّك الحزبُ الشُّيوعي الصِّيني ساكنًا مِن أجْل القضيَّة الفلسطينيَّة. وهذا على الرَّغم مِن حقيقة أنَّ تحريرَ فلسطين وطرَدِ القُوَّة الأمريكيَّة مِن غرب آسيا سيقطَع شوطًا طويلاً نحو الحَدِّ مِن التَّهديد الذي تُشكِّلُه الولايات المتحدة على الصِّين في شرق آسيا. إنَّ الحزب الشُّيوعي الصِّيني مُنْشَغِلٌ جدًا بِالتَّملُّق لِأسوَأِ المُستَبِدِّين في الخليج العربي ـ الفارسي والرأسماليِّين الإسرائيليِّين لِدرجة أنَّه لا يُولي أدْنى اِهتِمام بِمُناهَضة الإمبرياليَّة وِبِالنِضال مِن أجل التَّحرُّر الوطني، ناهيكَ عن الثورة البروليتاريَّة العالميَّة.
ومِن بين جميعِ الدُّول المُؤسِّسة لِمجموعة «بْريكْسْ»، رُبَّما كانت جنوب أفريقيا، أكثرَ مِن غيرِها مِن الدُّوَل المُؤسِّسة لِهذه المَجموعة، التي وقفَتْ أخلاقياً إلى جانِب فلسطين؛ إذْ تقدَّمَتْ بِشكوى إلى المحكمة الجنائيَّة الدُّوليَّة ضد إسرائيل بِتُهمة الإبادة الجماعيَّة. ولكن ما هي النَّتيجة؟ لا شيء بِالطَّبع. إنَّ الغَرَض الوَحيد مِن المحكمة الجنائية الدوليَّة هو اِستِهداف الطُّغاة الأفارقة المَخْلوعين وأعداءِ الولايات المُتَّحِدة. وهذا الاِستِعراض الفارغ للقوة مُرتبِط بإنْعاش «سيريلْ رامافوزا» والجَناح اليَساري في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، قبل الاِنتخابات الأخيرة، أكثر مِن اِرتِباطِه بأيِّ اِلتِزام جادٍ بِتحرير فلسطين. وبالفعل، فقد سارَعَ الرئيس «رامافوزا»، بعد الاِنتخابات، مُباشَرةً، إلى التَّحالُف مع وَرَثَة نِظام الفَصْل العُنصري، الصَّهايِنة المَسعُورين. ومِن المُؤكَّد أنَّ فلسطين لنْ تَتلقى أيَّةَ مُساعدة مِن هذه الحكومة.
هل يعني هذا أنَّ الوضْعَ مَيئوسٌ مِنه؟ على العَكس مِن ذلك، فإنَّه لا حاجَة للإِشادة بِمجموعة «البْريكْسْ» لِيُدرِكَ المَرءُ أنَّ قبْضة أمريكا على العالَم تَضعُف. وليس أمام مليارات العُمَّال والمُضطَهَدين سوى البُؤس والحرب التي ينتَظِرونَها من الولايات المتحدة ونِظامِها المُنهار. وبِمُجرَّد التَّوقُّف عن الثِّقة في الأنْظِمة الفاسِدة التي تُهادِن وتُدعِّم الوضعَ الرَّاهِن، يُصبِح مِن الواضِح أنَّ هُناك إمكانية هائِلة لِتوحيد ضَحايا الإمبرياليَّة الأمريكيَّة في جميع أنحاء العالَم - من فلسطين إلى المِكسيك ومِن الفِلِبين إلى الولايات المُتحدة نفسِها.
-
مِن أجل جبهة مُناهِضة للإمبرياليَّة ضدَّ إسرائيل والولايات المُتَّحدة!
تأميمُ جميعِ الأصُول الإمبرياليَّة وإلْغاءُ الدُّيون!
لا أوهامٌ بِخصُوص مجموعة البْريكْسْ – يا عُمَّال جميع البُلدان، اِتَّحِدُوا!
وبعد؟
إنَّ الوضعَ قاتِم؛ ففي كلِّ يوم، يُقتل المَزيدُ مِن الفلسطينيِّين على يَد الجيش الإسرائيلي ويُواجِه مئات الآلاف مِنهُم المَجاعة والمَرض. وفي الضِّفة الغربيَّة، تتِمُّ سَرِقة المَزيد مِن الأراضي الفلسطينيَّة. وتُظهِرُ إسرائيل، الآن، كلَّ الدَّلائل على رغبتِها في تحويلِ لبنان إلى غزَّة جديدة وقَصْف إيران بِهَدف اِخضاعِها. أمَّا إمكانية نجاحِها في ذلك فإنَّها مسألةٌ أخرى. ومع ذلك، فإذا كان العام الماضي قد أظهَر شيئًا واحدًا، فهو أنَّه لا مجال للرِّضا عن النَّفس؛ فلا الأُمَم المُتَّحدة، ولا المجتمع الدُّولي، ولا المَحكمة الجنائيَّة الدُّوليَّة، ولا دُوَل البْريكْسْ، ولا الأنظِمَة الإسلاميَّة - سَتَهُبُ لِنَجْدة الفلسطينيِّين. لقد حانَ الوقتُ لِمُواجَهة الواقِع المَرير والتَّعلُّم مِن النَّتائج الكارِثِيَّة التي حَصلَتْ خِلال الاِثنيْ عشر شهرًا الماضِية؛ وفي الوقتِ الحاضِر، فإنَّ القيادة الحالِية للمُقاومة الفلسطينيَّة ليْستْ في مٌستوى المُهمَّة، ولا الحرَكة الدُّوليَّة المُؤيِّدة للفلسطينيين في المستوى المَطلوب، أيضاً.
واليوم، ليس للشُّيوعيِّين والاِشتراكيِّين تأثيرٌ يُذكَر في العالَم العربي، وذلكَ لِأسْبابٍ ليْسَ أقلَّها أنَّهُم فشِلوا، حتى الآن، في اِقتراحِ طريقٍ للتَّحرُّر الوطني الحقيقي (أنظُر «المارْكْسِيُّون وفلسطين: مائة عام مِن الفَشل»، الطبعة الإنجليزية لـِ»سْبارْتاكيسْتْ» ٦٩). ومع ذلك، يتَّضِحُ، يومًا بعد يوم، أنَّ قِوى الإسلام السِّياسي، هي الأخرى، لا تَمْلِك جَوابًا ملائماً للوَضْع. وهذا ما يمنَح الحرَكة العُمَّاليَّة فُرصَةً سانِحةً للزَّج بِنَفسِها في المعركة إلى جانب الفلسطينيِّين وتقديمِ البَديل.
إنَّ المُهِمَّة التي تنْتظِرُنا هي دمْجُ نِضالات العًمَّال في بُلدانِهم مع النِّضال التَّحرُّري الفلسطيني على المستوى الدُّولي. ولنْ يكونَ ذلكَ مُمكِنا إلاَّ إذا ناضلْنا ضدَّ المَسار المُفْلِس الذي اِقترَحَه البيروقراطِيُّون النَّقابِيُّون والليبراليُّون والمُصالِحون الذين قادوا الأمُورَ حتى الآن. إنَّها مسؤوليةٌ مُلِحَّة تقَع على عاتِق جميعِ الاِشتِراكِيِّين ونُشطاء الطبَقة العامِلة والناشِطين الفلسطينيِّين للبِدْءِ في مُناقشة وتنْظيم هذا النِّضال لِتَغيير مَسارِه. ولا يُمكِنُنا أنْ نَسمَح بِأنْ يَكونَ العامُ القادِم كَسابِقِه.