QR Code
https://iclfi.org/pubs/icl-ar/2025-gaza
مترجمة من Palestine | Kill the Deal! (الإنجليزية), Spartacist (English edition) ملحق ,

يجِب وقف الإبادة الجماعية في غزَّة. لكن الحمقى فقط هم من يتوقعون أن يحقق ترامب ونتنياهو السلام في الشرق الأوسط. فالخطة التي كشفوا عنها في يوم ٢٩ سبتمبر تطالب المقاومة الفلسطينية بالاستسلام التام، ولا تقدم سوى المزيد من الخضوع الاستعماري. مع أنه من السهل على أي مراقب مؤيد لفلسطين أن يرى مدى بشاعة هذه الصفقة ونتائجها الكارثية، إلا أن الإجابة على السؤال عما يجب فعله أصعب بكثير. تجد المقاومة الفلسطينية نفسها في مأزق. فالوضع الإنساني في غزة يزداد سوءًا، ولا سبيل لهزيمة إسرائيل عسكريًا. وهناك شعور قوي بضرورة إنهاء هذا الصراع. علاوة على ذلك، فإن الضغط الدبلوماسي شديد للغاية، والعالم بأسره يصطف خلف ترامب.

قد يبدو ظاهريا أنَّ تقديمَ تنازلات كبيرة، مِثل إطلاق سراح الرهائن والقبول بِحكومة تكنوقراطيَّة ونزع السلاح، سيضع حداً للمُعاناة. لكنَّ ذلك لن يُؤدِّي، في الواقع، سِوى إلى إعطاء إسرائيل حرية التَّصرف في إبادة الفلسطينيين. ويكفي أنْ نَنظُر إلى ما حدث في عام ١٩٨٢ عندما وافَق مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينيَّة على الاِنسحاب مِن لبنان إذْ أدَّى ذلك إلى مَذابِح صبْرا وشاتيلا، وتهميش منظمة التحرير الفلسطينيَّة، وتمهيدِ الطريق لاِتفاقيَّات أوسلو. إنَّ الاِنسحابَ في مُواجَهة الهزيمة والبقاء على قيد الحياة واِستئناف القتال لاحِقاً شيء ، أمَّا ترْكُ سكان غزَّة، دون حماية في مواجهة الطغيان الإسرائيلي، فذلك شيء آخَر. لِذا عليْنا أنْ نقولَ بِصوتٍ واحدٍ: لا للاِستِسلام.

لكنَّ السؤال يبقى قائماً: إذْ كيف يُمكن وقفَ الإبادة الجماعية؟ إنَّ ترامب يتبجَّح ويُهدِّد كعادتِه، واعِداً بِتدمير مُنظمة حماس إذا لم تقبل الصفقة . ولا شكَّ أنَّ المقاومة في غزَّة تعرَّضت لضربات قاسية، لكنها، بعد عاميْن مِن القتال، لا تزالُ شوكةً في خاصرة إسرائيل. ولو كان بإمكانِ إسرائيل هزيمة حماس بالوسائل العسكريَّة التقليديَّة، لفعلتْ ذلك منذ زمن طويل. لقد دفَع الفلسطينيُّون ثمناً باهظا، لكنَّ إسرائيل وحتى الولايات المتحدة الأمريكية لم تَخرُجا سالِمَتيْن مِن هذين العاميْن من القتال. لِذلك، إذا مورس الضغط في المكان المناسب، فمن الممكن إجبار إسرائيل والولايات المتحدة على إنهاء الإبادة الجماعيَّة وتقديمُ تنازلات حقيقية.

إن الاِستراتيجيَّة الأكثر اِحتِمالاً لتحقيق نتائج فوريَّة هي، أيضاً، تلك التي يُمكن أنْ تُحقِّق، بِشكل أفضل، هدفَ تحرير فلسطين. وتتمثل هذه الاِستراتيجيَّة في حَشْد العُمال في جميع أنحاء العالم ضد حكامهم الذين يُساعدون، بشكل مباشر، في الإبادة الجماعيَّة أو يتغاضُون عنها. إنَّ الأمر بسيط، لكن من الواضحٌ، أنَّ هذا لم يحدُث بعد. وعلينا أنْ نفهَم السَّبب.

بعد مُرور عاميْن، لا يُمكن، بِبساطة، أنْ تستمر الحَركة على نفس المسار وتتظاهر بنجاح هذا النهج. يجب أن ننظر إلى الواقع بموضوعية ونستخلص منه دروسًا سياسية حقيقية. لقد ابتليت الحركة بوهمين منذ البداية مما عاق اِحتمالَ حُدوث انتفاضاتٍ شعبيَّة أعمق. الوَهَم الأول هو إمكانية دفْعِ المجتمع الدُّولي الذي يتحكَّم فيه اللُّصوص ونِظامِه القانوني المُزوَّر، للتَّدخُّل لِصالح فلسطين. والوَهَم الثاني هو أنَّ موجةً مُتزايدة مِن الدَّعم لفلسطين في جميع أنحاء العالم ستُمكِّن مِن وقف سياسة إسرائيل العدوانية. وفي الأساس، يرتكز كلا الوهمين على الاِعتقاد الخاطئ بأنَّ المَعايير الأخلاقيَّة الليبراليَّة كافِية لِوضع حدٍ للإبادة الجماعية.

الديبلوماسية طريق مسدود

لعدة أشهر ظل القادة السياسيون في جميع أنحاء العالم يصعدون لَهْجَتَهُم ضد إسرائيل. في سبتمبر "اِكتشفتْ" لجنةُ تحقيق تابعة للأمم المتحدة أنَّ إسرائيل اِرتكبتْ أعمالَ إبادة جماعيَّة. وفي غُضون ذلك، أعلنتْ عدة دُّول غربيَّة، الواحِدة تلو الأخرى، أنَّها "تَعترِف" بِدولة فلسطينيَّة. أمَّا الدُّول العربيَّة، فبعد أنْ قصفتْ إسرائيلُ قطر، العميلة الأمريكية، رفعت قبضاتها، معلنةً "كفى". يا له من زخمٍ مجيدٍ نحو الفَضيلة.

لكن تَبيَّن، في السَّاعات التي أعقبَتْ المؤتمر الصحفي لتْرامْبْ ونَتنْياهو، أنَّ كلَّ هذه المواقف الدبلوماسية والاستعراضية كانت ساخرةً تمامًا وبلا معنى. واحدًا تلو الآخر، أشاد قادة العالم بدونالد ترامب ودعوا إلى تنفيذ خططه المُقزِّزة التي اقترح فيها نفسه وتوني بلير كحكام على غزَّة. لقد كان الدَّعم شِبه إجماعي، اِبتداءً مِن الأمين العام للأمم المتحدة أنْطونْيو غُوتِيرِيسْ إلى رئيس الوزراء الإسباني «الاِشتراكي» بيدْرو سانْشيزْ، مُروراً بِأمير قَطر والحزب الشُّيوعي الصِّيني.

هكذا، وبضربة واحدة، اِتَّضحَتْ المَواقف الحقيقية للجميع إزاء القضية الفلسطينيَّة. أن الضجيج الدبلوماسي من جانب حلفاء الولايات المتحدة وعملائها مجرد مناورة كبرى لعزل المقاومة الفلسطينية في اللحظة الأهَم. أمَّا قادةُ الجنوب العالمي، فقد أثبتوا مجددًا أنهم، في أوقات الشدة، يَكتفون بالمُشاهَدة مِن بعيد، بينما ترتكِب الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل جرائمَهُما.

لم يكن أيٌّ من هذا مفاجئًا لأيِّ شخص على دِراية بالصراع الفلسطيني. لقد كان السُّؤال الحقيقي هو كيف يجب أن ترد الحركة الفلسطينية على هذه الجبهة الدِّبلوماسيَّة الصلبة التي تُطالبُها بالاِستِسلام: هل عليها أن تنخرط في هّذه اللعبة الدبلوماسية، أم أن تكشف خيانة المجتمع الدولي؟

في ردِّها على صفقة تْرامْبْ، فضلت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الخَيار الأول، مُعلِنة أنَّها "تُقدِّر الجهود العربية والإسلامية والدولية، وكذلك جهود الرئيس الأمريكي دُونالْدْ تْرامْبْ الدَّاعية إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة". وفي بيانِها، قبِلتْ بِبعض بُنودِ الخُطَّة بينما اِلتزمَتْ الصَّمت بشأن بُنودٍ أخرى. ورغم أنَّه لا يزال مِن غير الواضِح ما إذا كان اِنفتاحُ حَماس الظَّاهِر على إنذار تْرامْبْ سَيقودُها إلى تنازُلات حقيقية، فإنَّ ردَّها يكشِف بالفعل عن خلل قاتِل في نَهجِها.

إنَّ المُشكلة لا تكمن في مُوافقة حماس على التَّفاوض بِشأن بعض جوانب الاِتفاق أو في اِنخراطِها في مُجامَلات دبلوماسية جوفاء. بل إن اللغة التصالحية التي استخدمتها هي دليل على مشكلة أعمق. ففي محاولتها عزل إسرائيل دبلوماسيًا ، تَمْتنِع حماس، بِشكل أساسي، عن مُهاجمة الأنظمة الأخرى، لا سِيَما دول العالم العربي. وقد كانت هذه سمة ثابتة. فمنذ تخطيطها لأحداث السابع من أكتوبر وحتى تكتيكاتها الحالية، سعت حماس إلى انتزاع الأنظمة العربية من فلك إسرائيل وضمها إلى معسكرها من خلال المناورات الدبلوماسية.

وهذه هي نفسُ الاِستراتيجيَّة التي اِستخدمتها منظمة التحرير الفلسطينية تحت قيادة ياسر عرفات. إنَّها ليستْ اِستراتيجية ذَّكية، بل اِستراتيجية كارِثية. أولاً، لأنَّها مَحكوم عليها بالفشل؛ فإذا كانت هذه الأنظِمة تَميل، أحياناً، نحو المُقاومة، فإنَّ ذلك يعود إلى شُعورِها بِكراهية شُعوبها التي تَحرِق أقدامَها، ولأنَّها تحتاج إلى احتواء المشاعر المؤيدة للفلسطينيين. وبِغضِّ النَّظر عن مدى أنحنائها، فإنَّ سُلطتِها الفاسدة تعتمِد، في النهاية، على دعْمِ الولايات المتحدة الأمريكية، ولنْ تتجاوَز الخطوط الحمراء التي وضَعها لها سيّدُها إلا إذا لم يكن لديها خَيارٌ آخَر. ثانياً، فإن هذه الاستراتيجية تُضحِّي بِأهَمِّ ورقةٍ رابِحة لدى الحركة الفلسطينية في غرب آسيا: أي غضَبُ الجماهير المُتأجِّج إزاءَ تَصالُح قادتِها مع الصهيونية.

إنَّ المَشاعر المُؤيدة للفلسطينيِّين مُتجذِّرة بِعُمق في العالم العربي، بدءاً مِن الشَّباب الجزائريين الذين يُطالِبون بِإرسالِهم إلى فلسطين للقتال وصولاً إلى المَشاعر السائدة في القوات المُسلَّحة الراغِبة في إعلانِ الحرب على إسرائيل. وليس هناك شكٌّ في أنَّ دعوةَ المقاومة الفلسطينية لِشعوب مصر والأردن وتركيا لِكسر قُيود الدكتاتوريِّين المُوالين للإمبرياليَّة الذين يحكمونُهم ومُساعدة غزَّة سَتُثيرُ اِضطرابات سياسيَّة هائلة. وقد يؤدي ذلك إلى تغييرِ ميزان القوى في المنطقة. ويُدرِك تْرامْبْ وحلفاؤه، تمامًا، هذا الخطر، وهو ما يُفسِّر، جزئيًا، حِرصَهُم على تسويَّة النِّزاع لصالح إسرائيل في أسرع وقتٍ مُمكِن. ولكن بدَلاً من اِستِغلال هذه النُّقطة الضعيفة مِن خلال زيادة الضَّغط على هذه الأنظِمة المَكروهة، تُغدِق حماس عليهم أشادات لا يمُستَحَقونها وتعتمِد عليهم في المُفاوضات.

بينما تنطبِق هذه النقاط بِشكلٍ خاص على الأنظمة المُوالية للولايات المتحدة في العالم الإسلامي، فإنَّها تنطبِق أيضًا، بِشكلٍ عام، على بقيَّة دُول الجنوب العالمي والبلدان الغربيَّة. في جميع أنحاء العالم، تعانى الجماهير العاملة تحت وطأة الأستغلال و الضغوط المتزايدة من قِبَل حكامها، وهم نفس الحكام الذين يرفضون العَمل لإِنهاء الإبادة الجماعيَّة والذين يتَصالحون مع الإمبرياليَّة الأمريكيَّة. هؤلاء القادة لن يجبرو على دعم فلسطين و لن يُقدموا أي تنازلات جوهرية إلا من خلال القوة. أن تاريخُ الصِّراع الطبَقي واضحٌ في هذا الصَّدد: فالتَّوَدُّد للمُضطهِدين لا يؤدي إلى أى شيء.

يجِبُ رفضُ التَّكتيكات الدبلوماسية التي تُخدِّر مَشاعِر الجماهير وتُغذيها بأفكار خاطئة مفادها أنه يُمكن إقناع حكامهم بمساعدة الفلسطينيين. وهذا لا يعني أنَّه يجِب رفضُ أيِّ شكلٍ مِن أشكال الدبلوماسية أو التنازلات. ولكن، بقدر ما تُستخدم هذه التكتيكات، يجب أن تهدف إلى تعزيز نضالات المُضطهَدين ضد الإمبريالية ورفع وعيهم السياسي.

الوضع الحقيقي للحركة

في أعقاب اعتراض إسرائيل لأسطول الصمود العالمي، اندلعت احتجاجات في جميع أنحاء العالم. وكانت أبرزهذه الأحتجاجات في إيطاليا، حيث شارك مئاتُ الآلاف فى إضرابٍ عام وخرجوا إلى الشوارع. دفعت هذه التعبئة الناجحة الكثيرين في حركة التضامن إلى الإعلان بحماس أنَّ الرِّياح بدأتْ تَهُبُّ لِصالح فلسطين. وفي الواقع، فإنَّ الحركة نفسَها في وضْعٍ أكثرُ هَشاشة ممَّا يبْدو للوَهلة الأولى.

في العديد من الدول الغربية، أتاح الخطاب المنافق ضد إسرائيل والاعتراف الفارغ بالدولة الفلسطينية مساحة سياسية لدعم جماهيري واسع النطاق لفلسطين فى اوساط الرأي العام. ففي ألمانيا، أصبَح مِن المقبول، فجْأة، أنْ يتظاهَر صهايِنَةُ حزبِ اليَسار لِصالح فلسطين، وحتى المُستشار فْريدِيريشْ مِيرْزْ المولع بالحرب زعمَ أنَّه سَيوقِف شُحنات الأسلحة إلى إسرائيل. و في أستراليا، تذكَّر رئيسُ الوزراء العُمَّالي أُنْطوني ألْبانِيزْ، بَغْتةً، بعضًا من مؤهلاته المُؤيِّدة لفلسطين بعد أن كان، لسنوات طويلة، عميلاً مُخلصاً لإسرائيل. في كلا البلدين، ليس من قبيل الصُّدفة أن اندلعت أكبر الاحتجاجات بعد عامين تقريبًا من السابع من أكتوبر، في الوقت الذي أصبح فيه إظهار الدعم لفلسطين أمرًا مقبولًا على نحو متزايد.

وبِالطَّبْع، فإنَّه لَأمْرٌ جيِّد أنْ يتظاهَر عددٌ كبير مِن الناس مِن أجل فلسطين. ولكنْ مِن المُهِم فهْمُ طبيعة هذه التَّعبئة. فبشكل عام، نحنُ لا نشهَد ظهورَ موجَة متصاعدة مُعادِية للإمبِرياليَّة. بل إنَّ ما يدفع إلى التَّحرك هو خيبةُ أمَل المُؤيِّدين للأحزاب اليَسارية الوسطيَّة القديمة الذين يَرون العالمَ الذي عَرفوه وأحبُّوه يَنهارُ تحتَ ضربات تْرامْبْ واليَمينِ المُتطرِّف الصَّاعد. وبينما ستدفع هذه الدِّيناميكيَّة الكثيرينَ إلى اِستخلاص دروسٍ أكثرَ راديكاليَّة، إلا أن هذه العملية لن تكون فورية. وفي غُضون ذلك، لا تزال الحركة المؤيدة لفلسطين في الغرب خاضعة لهيمنة قوى اليسار الليبرالية التي تجد نفسها عاجزة ومعزولة بشكل متزايد عن الطبقة العاملة.

وحتَّى في إيطاليا، حيث اِتَّخذتْ الحركة طابع الإضراباتٍ السياسية الجماهيرية، مِن الخطأ المُبالَغة في تقدير قوَّتها وحتَّى طابَعها البروليتاري. وبينماْ نُرحِّب بهذه الإضرابات، إلا أن الحقيقة هي أن الطبقة العاملة الإيطالية منقسمة بشدة حول القضية الفلسطينية. ويَشعر الكثيرونُ بِالمرارة لأنَّ النقابات، التي لمْ تفعل شيئًا، على مدى عقود من الزمن، مِن أجْل الدفاع عن مصالح العُمَّال الإيطاليين، بدأتْ، فجأةً، في إثارة الضَّجة حول فلسطين. وهذا أمرٌ يُمهِّد الطريقَ لِحُدوثِ ردٍّ فعل عكسي، ليس فقط في إيطاليا وإنَّما في جميع أنحاء الغرب. وعلاوةً على ذلك، وعلى الرَّغم مِن قوة الإضرابات الأخيرة، فلا تَزالُ حكومةُ جورْجيا ميلوني الرِّجعِيَّة في موقعِ قوَّى، كما يتَّضِح مِن فوزِها الأخير في اِنتخاباتٍ أقليمية هامَّة.

وسَواءٌ في ألمانيا أو أستراليا أو إيطاليا أو في أيِّ مكان آخر في العالم الغربي، يرفُض اليسار، بِشكلٍ عام، الاِعتراف بأنَّ عُزلتَه الاِجتماعية آخِذةٌ في الاِزدياد. وبالتالى فهو لا يستطيع حتى أن يبدأ في فهم سبب عدم إحرازه مزيدًا من التقدم لحَشْد الطبقة العاملة للقضية الفلسطينية. والحقيقةُ هي أنَّ الكثير مِن العُمَّال قد سئِموا مِن سماع نُشطاء اليسار المتغطرسين يتحدثون في خُطَبٍ وَعْظِيَّة عن الصواب الأخلاقي، بينما يرون ظروفهم المعيشيَّة تَتدهور يوماً بعد يوم. ولكيْ يتمكَّن اليسار مِن بناء نفوذ حقيقيٍّ بين الجماهير العاملة، عليه أنْ يَتخلَّى عن الخُطَب الأخلاقية والرَّمزية الجوفاء وأنْ يُناضِل مِن أجْلِ النُّهوض بِالمصالح الماديَّة للمُضطَهَدين.

هذا صحيحٌ بشكل عام، ولكنه يُطرح بشدّةٍ عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. لقد كان هُناك عددٌ لا يُحصَى مِن الأعمال الرَّمزيَّة ضد الإبادة الجماعية في غزَّة، ولكنَّ القليلَ مِنها تَسبَّب في أضرارٍ ماديَّة جسيمة بالملجهود الحربيَّ الصُّهيونيَّ. وبِهذا الخُصوص، فإنَّ القطاعات الاِجتماعيَّة التي يُمكن أنْ تُوجِّهَ مِثلَ هذه الضربات، بدءًا بِالطبقة العامِلة الصناعية، تُعتبَرُ، عُمومًا، مُتخلِّفة، بشكل لا يُمكِن عِلاجُه. وبِطبيعة الحال، فإنَّ هذا الموقف لا يُساعد في استقطابها إلى صف الفلسطينيين.

في بعضِ نقابات القِطاعات الاِستراتيجيَّة التي لا تزالُ تحتَ تأثيرِ النُّشطاء الرَّاديكاليِّين، مِثل نقابات مَوانئ جُنْوَا، في إيطاليا، وبيرايوسِ، في اليونان، تَكفي الإجراءاتُ الرَّمزيَّة العابرة لإِسْعاد مُعظَم نُشطاءِ اليسار. لكنَّ الحقيقة هي أنَّ حتَّى النقابات الأكثر يَساريَّة ونَشاطًا لمْ تُنَظِّم أيَّ نضالٍ يَهدف إلى وَضْعِ حدٍّ نِهائي لِتواطُؤ حكوماتِها في الإبادة الجماعية. ولا يَعودُ ذلك إلى فشَلٍ أخلاقيٍّ أو نُقصٍ في الشَّجاعة الفرديَّة للُّنُشطاء النَّقابِيين، بلْ إلى مَفاهيم سياسيَّة خاطِئة.

إنَّ بناءَ حرَكة فلسطينيَّة ذاتُ ثِقل اِجتماعي حاسِم تكُون قادِرة على إجبار الحكومات على وقْفِ دعْمِها لِإسرائيل، يَقتضي إيجادَ وسيلةٍ لِإقناع غالِبيَّة الطبقة العامِلة بالكفاح مِن أجل هذه القضية. ويُمكن تحقيقُ ذلك، ليسَ على أساس أخلاقٍ إنسانيَّة مُجرَّدة، لأنَّ هُناك صِلَة لا تَنفَصِم بين اِستغلال الطبقة العامِلة في بلدِها وجَرائم الإمبِرياليَّة على الصَّعيد الدولي. ولِتحسين ظروفِهم المَعيشيَّة، على العُمَّال أنْ يُواجِهوا حكامهم الذين هم نفس الأشخاص الذين يتسامَحون مع الإبادة الجماعية أو يُشاركون فيها. كما أن قادة العمال أنفسهم الذين يبخسون حقوق العمال في الداخل هم من لا يستطيعون سوى حشد الدعم الرمزي لفلسطين. والخلاصة هي أن نجاح نضال الطبقة العاملة في بُلدانِها، يتطلَّبُ وَضْعَ القضيَّة الفلسطينيَّة في الصَّدارة، كما يجِبُ أنْ يكونَ النِّضالُ مِن أجلِ فلسطين مُرتبِطاً بِنضالات العُمَّال على الصَّعيد الوطني.

وعلى الثُّوار المُؤيِّدين لِفلسطين أنْ يُخفِّفوا مِن الحَماس الوَهْمي والمُفرِط للعديدِ مِن نُشطاء الحرَكة، وأنْ يَنظُروا إلى الوَضْع بواقعية ، وأنْ يُكافِحوا، بلا هَوادَة، مِن أجْل سَدِّ الفجْوة بين اليَسار والطبقة العامِلة. يجب ربط كل دعوة للتحرك العمالي من أجل فلسطين بمطالب مَلموسة لِتحْسين ظُروف العمَل. كما يَتوجَّب فَضْحُ قادَة النَّقابات الذين يَرفُضونَ القِيام بِذلك بدونَ تَردُّد. إنَّ حَشدَ الطبقة العامِلة للتحرك ليْسَ هو الطريق الأسْهل، إذْ أنَّه يَتطلَّب عَملاً صَبورًا ومَنهجِيًا. ولكنَّه الطريقُ الوحيد الذي يُمكِن أنْ يكونَ له تأثيرٌ حاسِم على نتيجة النِّضال.

الطريق إلى الأمام

إذا أردنا أن نجعل صفقة ترامب ونتنياهو حبراً على ورق وفرض وقف إطلاق نار لصالح فلسطين، فعلينا أن نسترشد بالحقائق الصَّعبة. إذْ يجِبُ أنْ تُحَدَّدَ مَبادِئُنا الاِستراتيجِيَّة بِما مِن شأنِه أنْ يدفَعَ النِّضال الفلسطيني إلى الأمام بِشكلٍ حقيقيٍّ، وليْس بِنزْعَة أخْلاقيَّة راضِية أو بِما يَبْدو جيِّداً على وسائل التَّواصُل الاِجتِماعيِّ.

وعلينا أن نَكونَ واضِحين؛ إنَّ دِبلوماسيَّة القِوى العُظمى لا تخدم مصالح الفلسطينيِّين؛ إذْ لمْ تنجَح في الماضي ولنْ تَنْجَح أبَداً. كما أنَّ حرَكات التَّضامُن اللِّيبراليَّة فَشِلتْ هي الأخرى، أيضاً. يجَّب أنْ نُمارِس قوَّة حقيقيَّة إذا أردْنا تغْييرَ الوضع الراهن. إن هذه القوَّة موجودة بين الجماهير الكادحة في العالم العربي وفي كُلِّ مَكانٍ آخر. لكِنْ يجِبُ تحريرَ هذه الجماهير مِن قُيودِها. ولكي نحظى بأي فرصة لتحقيق ذلك، علينا أن نتخلى عن أدوات الليبرالية العاجزة وأن نتمسك بمبادئ وأساليب النضال الطبقي. فهي وحدها القادرة على تحقيق. تحريرِ فِلسطين.